تبدأ القصة من خلال «رجل أمن بدوره ومسئوليته الثقافيتين» ،وذلكم أمر في غاية الضرورة أن تؤمن بدورك ومشروعك قبل أن يؤمن به غيرك ولكي يؤمن به غيرك. فالإنجاز لا يتحقق بقوة إيمانك فقط فالإيمان بمفرده لا يصنع إنجازا مهما علّت مبادئه وتوثقّت أفكاره، ولذلك يحتاج الإيمان مهما بلغت قوته إلى قوة القدرة حتى يًصبح «شريعة حياة» فلا إيمان بلا قدرة، وكم من عقيدة ماتت لأنها افتقدت القدرة على أن تُصبح «شريعة حياة». فقوة إيمانك وقوة قدرتك معا؛ هما من يصنعان أي إنجاز، فالتوازي هو الذي يمنح «قيمة الحياة» لِم تؤمن به. إن أهمية فكرة «التوازي» أو «متلازمة الإيمان والقدرة « تكمن في أنها مُثبِتة «لصدق وحقيقة ما نؤمن به». فالفرق بين الوهم والواقع «التجسيم والتمثيل» لأنهما برهان «لحيوية الوجود» وأقصد بالوهم هنا التنظير الوجداني لوظيفة ما تؤمن به، وهو وهم لأنه يعطينا إحساسا مزوّرا لفاعلية «ترسيخ الاعتقاد»، فكثافة الدلالة مهما ازدهرت خطابيتها لا يمكن أن تكون معادلا لقوة تأثير الإقناع العملي، وفي المقابل فإن ما يضمن حقيقة فاعلية ترسيخ الاعتقاد »الرؤية» المُعتمِدة غالبا على «القاعدة العملية» فتلك القاعدة هي الممثلة لبرهان الصدق والواقعية. لقد آمن الدكتور إبراهيم التركي بدوره ومسئوليته الثقافيتين، وليس كل من يؤمن بدوره ومسئوليته يستطيع الإنجاز،فإذا كان إيمانك بدورك ومسئوليتك رأس الحكمة ،والحكمة بدون قلب لا يمكن أن تكون مصدر تعلّم وتعليم، وقلب الحكمة هو كيف تجعل الآخرين يؤمنون بما تؤمن، والمشاركة في الإيمان لا تقتصر على الموافقة بقيمة ما تؤمن به، ولاشك أن الموافقة على القيمة ضرورية لكنها بمفردها ليست مشاركة مُنجزة، إنما المشاركة تتجلى في تنفيذ ما نؤمن بقيمته. إن المعضلة دوما ليست في تخطيط ما يُمكن إنجازه، إنما المعضلة، كما أعتقد كيف ننفذ ما يُمكن إنجازه، وهي معضلة لأنها تتعلق بالتكوين النفسي للأفراد فالنفس الإنسانية تميل إلى الذاتية واحتكار الفائدة المميزة، وصناعة الثقافة هو مشروع «جماعي». والجماعية هنا ستلزم بشكل أو آخر إلى إنتاج «هرمية» في تدرّج المسئوليات، ومن هنا قد تُصبح تلك الهرمية مأزقا للجمعي. أقول: قد تُصبح وقد لا تكون أي لا تُصبح هرمية المسئولية مأزقا في توتر الاتفاق الجمعي، والأمر في الحالتين يعتمد على «مُخطِط المُنجز». وأستطيع القول إن الدكتور إبراهيم التركي قد تجاوز مع الفريق الصانعللمجلة الثقافية ذلك المأزق، والدليل هو استمرار ازدهار المجلة الثقافية ونجاحها، فالخلاف والتقاطع بين شركاء صناعة المنجز ينعكس على المنجز ذاته، كما أن سلامة توافقهم واتفاقهم وترابطهم الفكري والوجداني ينعكس على نجاح المنجز. صحيح أن الدكتور التركي استفاد من مهارته الإدارية في تجاوز مأزق «المسئولية الهرمية» مع شركائه في صناعة «المجلة الثقافية» من صحفيين ومحررين ورقيب ومخرج وكتّاب من خلال توزيع المسئوليات؛ إن الإداري القائد في أي مجال هو الذي يعلّم شركاءه أن كلا منهم قائد في دوره، وذلك الأمر هو الذي يخلق داخل كل الشركاء روح الإبداع والإنجاز. لكن قبل تلك المهارة أو بمعيتها إيمانه بأن «صناعة الثقافة» هي عمل جماعي لا فردي، وإن الفردية قد تحقق «فعلا ثقافيا» أما صناعة الثقافة فهي مشاركة جماعية تجمع بين المُخطِط الثقافي والصحفي الثقافي والمحرر الثقافي والرقيب الثقافي والمخرج الثقافي ثم الكاتب الثقافي. وليس صحيحا قولنا إن نجاح أي مطبوعة ثقافية تعتمد على كتّابها، كما أن هذا القول هو مُجحف بحق الأبطال الحقيقيين الصانعين لنجاح تلك المطبوعة، فالمطبوعة الثقافية الناجحة هي التي تُنّجح الكاتب وتشهره، والمطبوعة الثقافية الفاشلة أوالضعيفة ثقافيا لا يمكن أن تُنجّح كاتبا مهما بلغت عظمته. ومن هنا، نعود إلى جذر المسألة صناعة الثقافة، لاشك أن «المطبوعات الثقافية» من أهم وسائل الثقافة ،وأقصد بالمطبوعات الثقافية الديوان الشعري والرواية والمجموعة القصصية والكتاب الفكري والمجلات الثقافية والملاحق الثقافية. وأهم تلك المطبوعات المجلات والملاحق الثقافية، وتلك الأهمية تنبع من كونها مُؤسِسة بطريقة أو أخرى للخلفية الثقافية للمجتمع ومُدونة تاريخية بطريقة أو أخرى للوقائع الثقافية للمجتمع، كما أنها إحدى وسائل صناعة الثقافة في المجتمع وهي كذلك جزء من التاريخ الثقافي للمجتمع. وهي تكتسب كل تلك الأهمية من خلال خمسة أسباب هي؛ السبب الأول»أسعارها رخيصة» مما يجعلها في متناول الجميع وبذلك تكتسب صفتها الشعبية، السبب الثاني «متنوعة الموضوعات» فهي تجمع ما بين الثقافي والإبداعي والفكري والفني، وهي بذلك تكسر فكر ة احتكار الإبداع للثقافة، السبب الثالث»تنوع جمهورها» وهو تنوع معتمد على تنوع موضوعاتها، فيقتنيها الشاعر والقاص والمثقف والفنان وهواة الأدب والإبداع. والسبب الرابع أنها تُتيح المجال لمواهب هواة الأدب والإبداعأما السبب الخامس، فهو ما تتميز به المجلات والملاحق الثقافية من متابعة مستمرة للمتغيرات الثقافية ومواكبة الأحداث الثقافية صورة وتحليلا. ونظرا لأهمية المجلات والملاحق الثقافية في صناعة ثقافة المجتمع، يجب أن يُخطط لها على أساس أنها ماكينة «لصانعة ثقافة» لا مجرد «آلة فشار» للتسلية والترفيه. وهذا الإدراك بأهمية المجلات الثقافية في «صناعة الثقافة» بدأ مبكرا منذ العدد الأول للمجلة الثقافية وهو إدراك كما قلت في بداية الموضوع بدأت قصته «برجل آمن بدوره ومسئوليته الثقافيتين». إن المرء هو الذي يصنع العظمة للأفكار لأنه هو الذي يمنحها القدرة والقوة على التكلم، وليست الأفكار هي التي تصنع العظمة للمرء. وبذلك فالعظمة صفة خاصة بالفعل لا بالأفكار، وبصورة أقرب للضوء تستمد الأفكار عظمتها من تأثيرها على الآخر. ومن هنا يكتمل مثلث الإنجاز الإيمان والقدرة والشراكة. فالإنجاز ليس إيمانا يتكلم فقط، بل هو بعد ذلك إيمان يسير على قدمين سويتين متساويتين، أيضا هو إدراك كان واضحا أمام التركي، إدراك مفاده أن قوة القدرة لن تتحقق إلا عبر من يؤمن بمشروعك حتى يُحبه أولا ثم يُشارك في صناعته وهذه النقطة مهمة هاهنا فكم من مشاريع عظمة بدأت بنجاح ثم فشلت لأن قائدها استفرد لصناعة القرار وتهميش شركاء النجاح ،لكن التركي يختلف عن القائد المُستفِرد، والدليل إتاحته لشركائه في صناعة الثقافية من إعداد الملفات الثقافية بعيدا عن توجيهاته المباشرة وهو ما يعني «صناعة الصف الثاني من الإدارة الثقافية»، وهذا ما ضمن استمرارية ازدهار المجلة الثقافية ونجاحها؛ الأصوات المتنوعة والرؤية الواحدة. وكلما كان صاحب الإيمان بالإنجاز قريباً من مركز صناعة القرار كان اختبار الإيمان أكثر إثباتا لصدق القدرة. ويمكن تقسيم أصحاب صناعة القرار إلى ثلاث فئات،الأولى تملك وتحكم والثانية تملك عبر الاستعانة وتحكم والثالثة لا تملك وتحكم، والتركي من الفئة الأولى الذي يملك إيمانا بمشروع صناعة الثقافة ويملك قدرة على تنفيذ ذلك المشروع قدرة المُخطِط وقدرة الفريق الشريك المبدع من صحفيين ومحررين ورقيّب تحرر من سلطوية أحادية الرأي ومبدأ «ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد» ومتمسك غالبا بديمقراطية «رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب». ومخرج آمن بأن ثقافة الصورة لا تقل أهمية وقيمة عن ثقافة الكلمة وبذلك نجح أن يجعل الصورة موازية لثقفة الكلمة والفكرة. الذي هو أيضا يملك ويحكم في ظل ديمقراطية ثقافية صنعتها المجلة الثقافية بل وأيضا علّمتّها لكتّابها، لقد استطاعت المجلة الثقافية أن تلعب دورا مهما في «التوازنات الثقافية» في السعودية، فإذا كانت هناك صحف محسوبة على التيار التجديدي وصحف محسوبة على التيار التقليدي فالمجلة الثقافية رسمت لنفسها منذ البدء أن ترعى التوازنات الثقافية فهي نافذة لكل الأصوات بتياراتها المختلفة ولا شك أن هذا الهدف قد سبب لها مشكلة إذ أن ثقافتنا تعودت على القطبية»إما أن تكون معي أو ضدي». كما أن «حقن المجلة الثقافية بالخبرات الثقافية العربية» استراتيجية كان لها الأثر الأكبر في نضوج التجربة الثقافية المحلية فقد تعلّمنا من القامات الثقافية العربية التي نكتب معها في المجلة ونتشرف بها.
كما آمنت بكل قلم ثقافي جديد يملك جدية الثقافة فلم تعتمد سياستها على استقطاب فحول الثقافة إنما مزجت بين الأعمار الثقافية كما مزجت بين التيارات الثقافية وصناعة الثقافة لا تبدأ من القمة بل من الجذر ولذلك سعت المجلة الثقافية منذ البدء في تأسيس»الذاكرة التاريخية للثقافة السعودية» عبر أوائل المثقفين الذين أثروا التجربة الثقافية السعودية وتجاهلتها المصادر الثقافية الرسمية بقصد أو دون قصد وبذلك أصبحت المجلة الثقافية ذاكرة التاريخ وشاهد عيان للثقافة المعاصرة ثم أسست المجلة الثقافية لفكر جديد في صناعة الثقافية من خلال»الشراكة الثقافية» بينها وبين النادي الأدبي في الرياض وجامعة الملك سعود وجامعة الأميرة نورة من خلال كرسي خاص «بالدراسات اللغوية»؛لأن صناعة الثقافة لا تقتصر على الشراكة الميدانية للثقافة المتداولة بل أيضا تتعلق «بثقافة المنبع» وهذه رؤية شمولية لصناعة الثقافة تمثل ريادتها المجلة الثقافية وقائدها.ولاشك أن لدى المجلة الثقافية مشاريع ثقافية أخرى تعزز من خلالها ريادتها في صناعة الثقافية المحلية. فتحية لقائد هذا المشروع الدكتور إبراهيم التركي ومن دعم هذا المشروع ورعاه السيد خالد المالك، والذي آمن بقيمته قبل ماديته والمدير العام المهندس عبد اللطيف العتيق، فهما أساسان في صناعة هذا المشروع الثقافي الذي سيُسجل علامة فارقة في تاريخ الثقافة السعودية وتاريخهما الثقافي فالتاريخ لا ينسى المنجزين، والحاضر الغائب الأستاذ محمد الدبيسي وكل صحفي ومحرري المجلة الثقافية مع الاحترام التام لحفظ الألقاب خلود العيدان سعيد الزهراني وعطية الخبراني وعلي مجرشي وفوزية الجلال وعبدالحفيظ الشمري ومحمد منيف وتركي الماضي وفيصل العواضي وصالح خزمري وفواز أبو نيان ورقيبنا الموقر الأستاذ عبدالرحمن المرداس والمخرجان الرائعان تميم فرح وجاسر حسين.
ومن باب العلم بالشيء، يُذكر أن كل هؤلاء الذين أسهموا ويسهمون في صناعة الثقافة من خلال المجلة الثقافية هم متعاونون غير متفرعين، وهو ما يدل أن من يؤمن بمشروع يضحي بوقته وفكره وجهده من أجل ذلك المشروع وهو ما يزيد من أهمية الفرد وقيمة إنجازه. فنحن الكتّاب لولاكم جميعا ما وصلت كلماتنا وأفكارنا ورؤيتنا لأحد وما غردنا خارج السرب. وسيثبت التاريخ أن صناعة الثقافة السعودية بدأت من هنا ومن قبل البدء بدأت «برجل آمن بدوره ومسئوليته الثقافيتين» وفريق شركاء آمنوا بما آمن به فصنعوا إنجازا رهصّ للقاعدة الأولية في صناعة الثقافة. وأخيرا أتمنى من الدكتور التركي وشركائه في المجلة الثقافية أن يتبنوا «مسابقة إبداعية في الشعر والقصة والرسم « لاكتشاف المواهب الجديدة، تتكفل المجلة مع النادي الأدبي في الرياض بمتابعة الفائز أو الفائزة، وبذلك ستسهم المجلة الثقافية في «صناعة مثقفي المستقبل».