نواصل مع مقال الشاعر والناقد الأمريكي مايكل دانا جويه. جويه مواطن أمريكي يحمل عدة ألقاب هامة، فهو كاتب، وناقد، وشاعر، ومدير شركة تنفيذي سابق، وهو من أصل إيطالي وولد عام 1950. بعد تخرجه من الجامعة بتخصص إدارة الأعمال، التحق بالشركة العامة للأغذية (جنرال فود كوربوريشن وهي جزء من شركة كرافت العالمية الضخمة)، وبرز في مجال التسويق حتى شغل منصباً تنفيذياً رفيعاً كنائب لرئيس الشركة لقطاع التسويق من عام 1977 حتى عام 1992، حيث استقال من منصبه ليتفرغ لكتابة الشعر والنقد. كما حصل لاحقاً على الماجستير في الأدب المقارن من جامعة هارفارد. جويه متزوج ولديه 3 أولاد.
أزمة الشعر والشعراء 5-6
أنطولوجيا لويس إنترماير المعنونة بـ «الشعر الأمريكي الحديث»، نشرت لأول مرة في عام 1919، وتم تنقيحها باستمرار لتبقى حديثة، وكانت «بست سيلر» مستمرة. نسختي الشخصية من طبعة 1942، على سبيل المثال، أعيد نشرهما خمس مرات بحلول عام 1945. ونسختي من أنطولوجيا أوسكار ويليامز «كتاب الجيب من الشعر الحديث» أعيد نشرها 19 مرة خلال 14 عاماً. تفاخر كل من إنترماير وويليامز بأن مختاراتهما كانت شاملة وحديثة. لقد حاولا تمثيل أفضل ما كان يجري نشره. كل طبعة كانت تضيف قصائد شعراء جدد وتحذف القديم. والجمهور قدّر جهودهم. المختارات (الأنطولوجيات) الشعرية كانت جزءاً لا يتجزأ من مكتبة أي قارئ جاد للشعر. وشملت «سلسلة المكتبة الحديثة» ذات الشعبية التي أصدرتها دار راندوم هاوس الكبرى، على سبيل المثال، ليس كتاب مختارات واحد بل كتابا مختارات هما: «أنطولوجيا جديدة من الشعر الحديث» لـ سيلدن رودمان، و«الشعر الأمريكي في القرن العشرين» لـ كونراد أيكن. كل هذه المجموعات كانت تقرأ وتعاد قراءتها من قبل جمهور متنوع. وكانت القصائد المفضلة تحفظ عن ظهر قلب. وكانت تتم مناقشة أعمال الشعراء الصعبين مثل إليوت وتوماس بصورة حيوية. وكان الشعر مهماً خارج الفصول الدراسية.
اليوم يشكل هؤلاء القراء الجمهور الذي فقده الشعر. هذه المجموعة غير المتجانسة التي تتميز بالثقافة والفضول تتوزع عبر خطوط العرق والطبقة والعمر والمهنة. إنهم يمثلون طبقة الإنتليجنسيا الأمريكية، وهم الناس الذين يدعمون الفنون والآداب (يشترون تسجيلات كلاسيكية وجاز، يحضرون الأفلام الأجنبية والمسرح الجاد، الأوبرا، الحفلات السيمفونية، ويمارسون الرقص، ويقرأون الروايات والسير الذاتية النوعية، ويستمعون إلى الإذاعة العامة (التي لا تبث إعلانات) ويشتركون في أفضل المجلات، وهم أيضاً في كثير من الأحيان الآباء والأمهات الذين يقرأون الشعر لأبنائهم ويتذكرون أنهم ذات مرة، في الكلية أو المدرسة الثانوية أو الروضة، أحبوا الشعر). لا أحد يعرف حجم هذه المجموعة، ولكن حتى إذا قبلنا بتقدير متحفظ أنها لا تمثل سوى 2 في المئة من سكان الولايات المتحدة، فإنها – مع هذا - تمثل جمهوراً محتملاً يقارب خمسة ملايين قارئ. مهما كانت حالة الشعر الصحية ضمن الثقافة الفرعية المهنية، فقد كان هذا الجمهور الأكبر، يمثل جسر الشعر نحو الثقافة العامة.
الحاجة للشعر
ولكن لماذا سيهتم أي شخص بمشكلات الشعر الأميركي باستثناء شاعر؟ وما هي الصلة الممكنة لهذا الشكل الفني القديم بالمجتمع المعاصر؟ في عالم مثالي، لا يحتاج وجود الشعر إلى تبرير أكثر من البهاء المطلق لوجوده بنفسه. وكما أشار والاس ستيفنز ذات مرة «إن الغرض من الشعر هو الإسهام في تحقيق سعادة الإنسان». الأطفال يعرفون هذه الحقيقة الأساسية عندما يطلبون أن نغني لهم القصائد المقفاة المفضلة في مرحلة الحضانة مراراً وتكراراً. المتعة الجمالية لا تحتاج إلى مبرر، لأن الحياة من دون تلك المتعة لا تستحق أن تعاش. ولكن بقية المجتمع في الغالب نسوا قيمة الشعر. وبالنسبة إلى القارئ العام، فإن المناقشات حول حالة الشعر تبدو مثل الثرثرة حول سياسة الدول الخارجية من قبل مجموعة من المهاجرين في مقهى قذر. أو كما وصفها سيريل كونولي بمرارة أكثر «تجادل الشعراء حول الشعر الحديث هو مثل زمجرة ذئاب فوق بئر ماء جاف». وأي شخص يأمل في توسيع دائرة جمهور الشعر - ناقد، مدرس، أمين مكتبة، شاعر، أو قارئ وحيد- سيواجه تحدياً صعباً. كيف يمكن للمرء إقناع القراء المتشككين لسبب وجيه، بطريقة يمكنهم فهمها وتقديرها أن الشعر لا يزال حياً ومهماً؟!
إن بيت شعر لوليام كارلوس وليامز في قصيدة «الزنبقة، تلك الزهرة الخضراء» التي كتبت قرب نهاية حياة المؤلف قد يمنحنا نقطة انطلاق محتملة نحو هذا الهدف، وذلك بعد أن أصيب بجلطة في المخ نتج منها شلل جزئي؛ أبياتها تلخص الدروس الصعبة حول الشعر والجمهور التي تعلمها ويليامز على مدى سنوات من التفاني في كل من الشعر والطب. كتب يقول:
قلبي يستيقظ
مفكراً أن ينبئكم بأخبار
شيء ما يهمكم
ويهم العديد من الرجال. انظروا إلى
ما يُظن أنه جديد.
لن تجدوه هناك ولكن في
القصائد التي يُستخف بها.
فمن الصعب
الحصول على الأخبار من القصائد
ومع هذا يموت رجال ببؤس كل يوم
لعدم فهمهم متعة ما يوجد بها.
فهم وليامز قيمة الشعر الإنسانية، ولكن لم يكن لديه أوهام حول الصعوبات التي واجهها معاصروه في محاولة إشراك الجمهور الذي كان بحاجة ماسة إلى الشعر. ولاستعادة جمهور الشعر يجب على المرء أن يبدأ باجتياز تحدي وليامز للعثور على ما «يهم العديد من الرجال»، و«ليس» مجرد ما يهم الشعراء.
هناك على الأقل سببان في كون حالة الشعر تعتبر مهمة بالنسبة إلى المجتمع الثقافي بأكمله. الأول، يتعلق بدور اللغة في المجتمع الحر. الشعر هو فن استخدام الكلمات المشحونة بمعانيها القصوى. المجتمع الذي يفقد قادة الفكر والثقافة فيه المهارة لتشكيل وتقدير وفهم قوة اللغة سيصبح أعضاؤه عبيداً لأولئك الذين يملكونها سواء كانوا من السياسيين أو خبراء الإعلانات أو مذيعي الأخبار أو رجال الدين. المسؤولية العامة للشعر أشير إليها مراراً وتكراراً من قبل الكتاب المعاصرين. وحتى شاعر الرمزية الفرنسي الكبير ستيفان مالارميه، أثنى على مهمة الشاعر المركزية لـ «تنقية كلمات القبيلة».
وأوضح الشاعر عزرا باوند أن الكتاب الجيدين هم من يحافظون على فعالية اللغة. وهذا يعني أن تكون دقيقة ونظيفة. ولا يهم ما إذا كان هناك كاتب جيد يريدها أن تكون مفيدة، أو كاتب رديء يريدها لفعل ضرر. إذا تدهور أدب أمة، فالأمة ستضمر وتنحل.
أو، كما كتب جورج أورويل بعد الحرب العالمية الثانية، «يجب أن نعترف أن الفوضى السياسية الحالية مرتبطة مع انحطاط اللغة». الشعر ليس هو الحل الكامل والمثالي لحفظ لغة الأمة واضحة ومستقيمة، ولكن من الصعب تصور مواطني بلد يطورون لغتهم، بينما يهملون الشعر.
والسبب الثاني، في كون حالة الشعر تعد مهمة لجميع المثقفين هو أن الشعر ليس وحده من بين الفنون في موقعه الهامشي. وإذا كان جمهور الشعر قد انخفض إلى ثقافة فرعية من المتخصصين، فهذا أيضاً حال جماهير معظم أشكال الفن المعاصر، من الدراما الجادة إلى موسيقى الجاز. التشرذم غير المسبوق لـ «الثقافة الأميركية العالية» (ثقافة الصفوة أو النخبة) خلال نصف القرن الماضي، جعلت معظم الفنون بمعزل عن بعضها البعض وكذلك عن الجمهور العام. الموسيقى الكلاسيكية المعاصرة نادراً ما توجد كفن حي خارج دوائر الجامعة والمعاهد الموسيقية. وموسيقى الجاز التي تمتعت يوماً ما بجمهور واسع وشعبية عظيمة أصبحت مجالاً شبه خاص للمعجبين بها والموسيقيين. (بل اليوم حتى فنانو الجاز المبتكرون لا يجدون مكاناً للعزف في كثير من المدن – وبالنسبة إلى الفن الارتجالي يعد عدم القدرة على الأداء بمثابة إعاقة). الكثير من الدراما الجادة الآن محصورة على هامش المسرح الأميركي، حيث يشاهدها فحسب: الممثلون، والهواة الطموحون للتمثيل والكتاب المسرحيون وقليل من المشجعين المتعصبين لهذا الفن. الفنون البصرية فقط (كـ الرسم والتصوير والنحت والعمارة)، وربما بسبب بريق المال الذي تجلبه ودعم الطبقة العليا لها، نجت إلى حد كبير من تراجع اهتمام الرأي العام بها.
كيف يمكن سماع الشعراء؟
والسؤال الأكثر جدية بالنسبة إلى مستقبل الثقافة الأميركية هو ما إذا كانت الآداب والفنون ستستمر في الوجود في عزلة وتتدهور كتخصصات أكاديمية مدعومة، أو ما إذا كانت إمكانية التقارب مع الجمهور المثقف لا تزال قائمة؟ يجب على كل نوع من الآداب والفنون مواجهة التحدي بشكل منفصل، وليس هناك فن يواجه عقبات أكثر من الشعر. ونظراً إلى انخفاض التحصيل العلمي العام (إتقان القراءة والكتابة) وانتشار وسائل الإعلام الأخرى، والأزمة في مجال تعليم الإنسانيات، وانهيار المعايير النقدية، والعبء الهائل لحالات الفشل الماضية، فكيف يمكن للشعراء أن يُسمعوا؟ ألا يحتاج الأمر لمعجزة؟!
قرب نهاية حياتها كتبت ماريان مور، قصيدة قصيرة بعنوان «أووه أن أكون تنينا». واستدعت هذه القصيدة الحلم التوراتي الذي ظهر فيه الرب للملك لسليمان وقال: «اسأل ماذا سأعطيك». سليمان تمنى قلباً مليئاً بالحكمة والفهم. أمنية مور يصعب تلخيصها. قصيدتها تقول:
لو كانت لي - مثل سليمان - أمنية،
أمنيتي.... أووه أن أكون تنيناً،
رمزاً لقوة السماء - لدودة القز
كبيرة، صغيرة، وأحياناً خفية
ظاهرة فاتنة
حصلت مور على أمنيتها. لقد أصبحت كحال جميع الشعراء الحقيقيين «رمزاً لقوة من السماء». لقد نجحت في تحقيق ما يسميه الشاعر الشهير روبرت فروست «أقصى درجات الطموح» – أي تحديداً: «كتابة قصائد قليلة سيكون من الصعب التخلص منها». لقد أصبحت جزءاً دائماً من «الظاهرة الفاتنة» للأدب الأميركي. ولذلك الأمنيات يمكن أن تتحقق، حتى تلك الأمنيات الباذخة. وإذا كان يمكن أن يكون لي، مثل ماريان مور، أمنية، فأنا، مثل سليمان، أود أن يكون لي القدرة على ضبط النفس بحيث لا أتمنى لنفسي، بل أتمنى أن يستطيع الشعر مجدداً أن يصبح جزءاً من ثقافة الشعب الأميركي. أنا لا أعتقد أن هذا أمر مستحيل. كل ما يتطلبه الأمر هو أن يتحمل الشعراء ومعلمو الشعر المزيد من المسؤولية لتقديم أعمالهم الفنية للجمهور. وأختم بستة اقتراحات متواضعة عن كيفية تحقيق هذا الحلم ليصبح واقعاً:
نواصل مع الحلقة الأخيرة الأسبوع القادم حيث نسرد توصيات دانا جويه لاستعادة شيء من مجد الشعر.
Hamad.aleisa@gmail.com
- المغرب