المؤلف: أندريه جيد
المترجم: محمود عبد الغني
الناشر: المغرب: دار توبقال، 2012
الصفحات: 71 صفحة (قطع متوسط)
***
« برع أندريه جيد، براعة فائقة في تصوير الصحراء العربية ويصفها في دفتر يومياته خلال زيارته لمدينة بسكرة التونسية قائلا «أحب الصحراء حبا لا حد له. في السنة الأولى كنت أهابها بسبب ريحها ورملها وفي غياب أي هدف، لم أعد أعرف التوقف فكنت أتعب بسرعة. كنت أفضل الطرق الظليلة تحت النخيل، حدائق (الوردي)، والقرى. غير أنني في العام الماضي قمت بجولات كبيرة. لم يعد لي هدف آخر غير اجتناب رؤية الواحات. كنت أمشي، أمشي إلى أن أشعر في الأخير شعورا قويا بالوحدة في السهل، حينئذ أبدأ في النظر. كان للرمال ظل مخملي عند منحدر التلال، في هبوب كل ريح يوجد حفيف رائع، بسبب الصمت الكبير يسمح أدق الأصوات. أحيانا كان ينطلق نسر من التل الكبير. من يوم إلى آخر كان يبدو لي أن هذا الامتداد الرتيب يتضمن تنوعا خادعا».
كما يصف رعاة القطيع الرحل بقوله «كنت أعرف رعاة القطيع الرحل. أذهب للبحث عنهم، أبادلهم الأحاديث، بعضهم من يعزف على الناي بمهارة. كنت أحيانا أجلس بالقرب منهم دون فعل أي شيء. كنت أحمل معي دائما كتابا، لم أكن أفتحه إطلاقا، ولم أكن أعود في الغالب إلا في الليل. لكن عثمان الذي حكيت له هذه الجولات قال لي إنها لم تكن حذرة، وإن العرب الجوالين يحرسون نواحي الواحات وينهبون الغرباء الذين يعرفون أنهم لن يدافعوا عن أنفسهم. وكان من الممكن أن يهاجمونني. منذ ذلك اليوم وهو يريد مرافقتي. لكن بما أنه لا يحب المشي، أصبحت جولاتي قصيرة، إلى أن توقفت فيما بعد».
وينقل أندري انبهاره بأصوات الطبول والموسيقى الزنجية، وهو يصفها بقوله «لم يحضر أي فرنسي لهذا الحفل الليلي الرائع الذي حضرته بالصدفة تقريبا، بدعوة من صوت الطبل وزغاريد النساء. نظمت الحفلة في القرية الزنجية. حشد راقص من النساء والعازفين يصعد الشارع الكبير، متبوعا بحاملي المشاعل، وبمجموعة من الأطفال الذين يضحكون ويقدون تيسا أسود من قرنيه، مغطى بالشموع والأقمشة. أسورة معلقة على قرنيه، وخطام ضخم في منخريه، وقلائد في عنقه. وكان يرتدي خرقة من الحرير قرمزية. في الحشد الذي يتبعه تعرفت على الشيخ عاشور والعظيم. فسر لي أن هذا التيس سيذبح في الليل ليجلب الحظ السعيد للقرية. وقبل ذلك يجولون به في الشوارع، لكي تلج إلى داخله أرواح البيوت الشريرة، الواقفة على العتبات، وتختفي».
كما لا يخفي أندريه جيد سحره بالموسيقى الصحراوية والزنجية حين يقول «أيتها الموسيقى الزنجية! كم مرة ظننت أنني سمعتك، بعيدا عن إفريقيا. وفجأة يتشكل الجنوب حولك من جديد. في روما أيضا، في شارع «فيا غريغوريانا»، تحضرين عندما تأتي الشاحنات الثقيلة في الصباح الباكر فتوقظني. على ايقاع وثباتها الخرساء على بلاط الشارع، وأنا نائم، أسيء الظن، ثم أحزن لوقت طويل».
وينهي جيد ملاحظاته وإنطباعاته حول سفره إلى اغوار إفريقيا المسحورة بقوله «أقرأ اليوم ملاحظاتي عن السفر. لمن سأنشرها..؟ ستكون شبيهة بإفرازات صمغية، لن تقبل بتسليم عطرها إلا وهي دافئة بين يدي من يمسك بها....».