لا يمكن الحكم على نوعية التأثير الذي لعبته وتلعبه وسائط الإعلام الجديد على اللغة العربية تحدّثاً وكتابةً، وتبقى إشارة البعض على أنها عملت على تمييع وتسطيح اللغة محط تساؤل وبحث، فلا يمكن إطلاق الحكم بهذه الجسارة دون دراسات علمية تتناول الموضوع بشيء من الدقة والتفصيل من قِبل المتخصصين.
فلو نظرنا بعين الفاحص لوجدنا أن تطورات العصر على صعيد الفكر والأداة قد غشت حياة العرب وأورثتها إرباكاً حيناً وتغيراتٍ في أحايين أخرى، ما انسحب بلا شك على لغتهم التي هي موروثٌ فكري وأداة تواصل في آنٍ واحد، وما الإعلام الجديد إلا أحد مظاهر الحياة الجديدة ذات التأثير المتعدد الأوجه.
ولعلنا نتشاطر الرأي في ضعف اللغة العربية تحدّثاً وكتابة إلا أننا قد نختلف حول الأسباب أو مدى تأثيرها نظراً لتكاثر المستجدات وتداخل أدوارها وتأثيراتها، وفي دراسةٍ كنتُ قد أجريتها العام المنصرم حول الضعف اللغوي لدى طلاب الدراسات العليا في جامعة الملك سعود، أجمع أفراد العينة المستطلعة وهم من أساتذة الجامعة نفسها على وجود الضعف اللغوي تحدّثاً وكتابة لدى طلاب الدراسات العليا الذين قاموا بتدريسهم إلا أنهم تباينوا في الإشارة إلى الأسباب، بعضهم أرجعه إلى ضعف التعليم العام والجامعي وآخرون إلى معايير القبول التي تُهمل التمكّن من اللغة العربية وبعضهم أرجعه إلى تراجع دور الكتاب كمصدر للبحث والاطلاع والاعتماد على المواقع الافتراضية التي لا تعبأ بالجودة اللغوية كثيراً.
وإن كنتُ أعتقد أن الكتاب سيبقى مصدراً أولاً ومكيناً للثقافة التي لا يمكن بناؤها عبر وسائط الإعلام الجديد بصورة كاملة، وأن اللغة الرصينة لا يمكن اكتسابها إلا من المطالعة الحثيثة لأمهات الكتب وعيونها في ظل المفردة السهلة والعبارة المجتزأة والفكرة السريعة نظراً لمقتضيات العصر و نوعية الوسائط، إلا أنني لابد وأن أؤكد على الجانب الإيجابي المُثري الذي ساهمت به وسائط الإعلام الجديد فيما يخص إرفاد اللغة العربية ولعلي أضع ذلك في نقاطٍ سريعة:
1- التواصل المفتوح والسريع مع الأدباء والمفكرين -من الجنسين- عبر وسائط الإعلام الجديد كـ (تويتر والفيس بوك والصحف الإلكترونية)، وهؤلاء عادة ما تكون لغتهم على قدرٍ من الجودة.
2- وجود حسابات في وسائط الإعلام الجديد لبعض المجامع اللغوية والمؤسسات والمكتبات المتخصصة وأندية القراءة التي تنشر ثقافة المفردة الصحيحة واللغة السليمة بصورة سهلة ومحببة للجميع بكافة اهتماماتهم ومستوياتهم.
3- حفز المتلقين وإثارة اهتمامهم باللغة الفصحى والمناسبات التي تتعلق بها، وهذا ما استخدمته بعض المنظمات والجمعيات كاليونسكو مثلاً التي أثارت اهتمام المتلقين وانتباههم إلى يوم اللغة العربية العالمي والأنشطة المُقامة تزامناً معه عبر الوسائط الإعلامية الجديدة.
4- الكتابة المباشرة التي أُتيحت للمتلقي العادي و نشر ما يجول في خاطره بسهولة و يسر بعد أن كان الأمر عسيراً، و مع مزيدٍ من الدربة و التواصل و المواصلة والاطلاع الدائم على ما يكتبه المتمكنون ستصبح مساحة الاستفادة والتغيير اللغوي الإيجابي أكبر.
وهناك الكثير من الجوانب التفصيلية التي يجب التمعن فيها للوقوف على الدور الهادف الذي تقوم به وسائط الإعلام الجديد، حتى تلك اللغة التي اضطر إليها عدد من المفكرين والأدباء للتعامل مع عامة المتابعين، تلك اللغة الصحيحة في مبناها والبيضاء الواضحة في معناها تُعد استحداثاً إيجابياً هادفاً، يضمن استمرار الفصحى أداة تواصل إعلامية في ظل سهولة التواصل وفق ما يتناسب ومستجدات العصر وما تقتضيه وسائط الإعلام الجديد، وتبقى المساحة اللغوية الصفراء التي تتمدد وتتوسع في عالمنا وعبر الوسائط الإعلامية قلقٌ يتسع ويحتاج لمزيد من الدراسة للإحاطة والتدارك.