لا تزال العلاقة بالآخر - الغرب بارزة في أدبنا العربي والشرقي، وتتشكّل فيه هذه العلاقة باعتبارها واقعًا وخيالاً لا محيص للأدب عنه. وقد كُتب عن هذه العلاقة كثيرًا أن أدبًا أو نقدًا أو فكرًا بين رافض لها وقابل وبين من حاول ملامسة الخطوط الضئيلة التي تحكمت في هذه العلاقة.
آليتُ أن أقدم دراسة نقدية لثلاث روايات تميزت بكونها - في نظري - من أشهر من صورت العلاقة بين الشرق والغرب؛ وكذلك تفاوتت بين أزمان متباعدة بتاريخ صدورها؛ كما أنها تحمل تنوعًا فكريًّا لطبيعة العلاقة بين الشرق والغرب. وهاته الروايات - بحسب تأريخها - هي: عصفور من الشرق لتوفيق الحكيم 1938م، موسم الهجرة إلى الشمال للطيب صالح 1966م، الأصولي المتردد لمحسن خالد 2011م.
ومما يميز هاته الروايات تنوعها المكاني؛ فرواية عصفور من الشرق تنتقل أحداثها بين مصر وفرنسا، وفي رواية موسم الهجرة إلى الشمال تتموضع الأحداث فيها بين السودان وبريطانيا، وفي رواية الأصولي المتردد تتشكّل أحداثها بين باكستان وأمريكا. وبهذا نلحظ تنوعًا مكانيًا يعطينا بعدًا أوسع لتحليل العلاقة بين الشرق والغرب.
تموضعات العلاقة الفكرية
تراوحت العلاقة بين الشرق والغرب في هذه الروايات بين عدد من التوجُّهات الفكرية التي حاول الروائيون تصويرها؛ وجاءت هذه التموضعات الفكرية خاضعة للبعد الآني الذي حتّم هذه التنوعات في العلاقة.
ففي رواية عصفور من الشرق ينبيك عنوانها عن احتقار وضعف يتمثَّل في هذا العصفور الشرقي الوديع (محسن) الذي عاش في الغرب بفرنسا؛ وتُصوره أحداث الرواية على أنَّه مُحتقر حتَّى إن السُلّم الذي صعده (محسن) ليلِج الأوبرا كاد أن يتحدث ويصرخ به «فليس ببعيد أن يغضب السلّم في هذه اللحظة ويزلزل محسن صائحًا: لم يبقَ على آخر الزمان إلا أن يطأني بنعله القديم مثل هذا الصعلوك القادم من الشرق».
ويتكرر هذا الاحتقار لمحسن - الشرق عندما «انفردت سوزي في حجرتها ذات مساء وجعلت تفكر قليلاً في أمر هذا الفتى الغريب: أهو شرقي متوحش لا يعرف الآداب واللياقة؟! «.
فثيمة النظرة الدونية والاحتقار هي إحدى التموضعات الفكرية للعلاقة بين الشرق والغرب في هذه الروايات.
وتطلّ علينا ثيمة أخرى لهذه العلاقة في ذات الرواية تنبذ الغرب وتجعل منه عصبًا ماديًّا بلا روح؛ فيصفهم (محسن) - وهو يخاطب صديقه الفرنسي (أندريه) -: «أن هؤلاء الأمريكان خلقوا من الإسمنت المسلح لا روح فيهم ولا ذوق ولا ماضٍ؛ إذا فتحت صدر الواحد منهم وجدت في موضع القلب دولارًا».
ويصور الروائي جشع الرأسمال الغربي وكيف يفتك بالبسطاء من الناس حتَّى مع أهلهم من الغربيين، فـ(أندريه) وزوجته (جرمين) يعيشان بؤسًا عائليًّا مشتتًا بسبب أعمالهم في المصنع إِذْ يخرجون صباحًا فلا يعودون حتَّى المساء دون أن يروا أبناءهم إلا لممًا؛ « ها هي جيوش من العبيد يسخرها أفراد معدودون من السادة الرأسماليين».
ويرمز الروائي لهذه العلاقة المادِّية المنزوعة من الروحانية بالأرض والسَّماء «إن الغرب يستكشف الأرض؛ والشرق يستكشف السَّماء».
وتتوافق هذه الرؤية المادِّية البحتة للغرب مع صديقه الملحد الروسي (إيفان) الذي يمجّد روحانية الشرق؛ نابذًا بكلِّ ما أوتي من قوة مادية الغرب وحضارته الأرضية؛ ويجعل الغرب سببًا في دحض روحانية الشرق «إن الشرق يوم أعطى الغرب هذه الأديان إنما أعطاها على النحو الذي ذكرنا فتسلمها الغرب وألبسها أرديةً موشاة بالذهب ووضع على رؤوسها التيجان المرصعة بالألماس».
ولا يزال (إيفان) يُثني (محسن) عن المكث بين ظهراني الغرب؛ ويحاول إلى آخر لحظة من حياته أن يقنعه بالعودة إلى الشرق - الروحانية.
وفي رواية موسم الهجرة إلى الشمال يعطيك لفظ (الهجرة) انطباعًا عن البُعد والخلاص من هذا الغرب؛ وقد جاءت صورة الغرب في هذه الرواية على أنّه المستعمر - المحتل الناهب لخيرات البلاد - السودان وأن احتلاله لبلاد الشرق أضحى أمرًا طبعيًا لم يأنف منه الغربي حتَّى إن منصور قال لريتشارد في حوار بينهما: «لقد نقلتم إلينا مرض اقتصادكم الرأسمالي؛ وماذا أعطيتمونا غير حفنة من الشركات الاستعمارية نزفت دماءنا وما تزال»؛ فجاء جواب رتشارد بكلِّ ثقة واعتداد: بأن «كل هذا يدل على أنكم لا تستطيعون الحياة بدوننا؛ كنتم تشتكون من الاستعمار ولما خرجنا خلقتم أسطورة الاستعمار المستتر». وهذا ما اُتهم به بطل الرواية الذي عاش في لندن بأنّه عميل للاستعمار وخانع لهم قد زرعه الاستعمار خليفة له.
بينما نلحظ أن الشرقي يقابل استعمارهم للبلاد باستعمار نسائهم؛ فخطّيته في الرواية تفصح عن علاقات مشبوهة مع النساء البريطانيات؛ وكان قد جهّز غرفة خاصة لفرائسه يصطادهن فيها؛ ويعدهن بالزواج احتيالاً؛ حتَّى تزوج (جين)؛ فلما ماتت اتهموه بقتلها فسُجن على إثرها سبع سنوات عاد من بعدها إلى بلاده. وعودة مصطفى سعيد إلى بلاده مستخفيًا في قرية صغيرة على نهر النيل وخدمته لبلاده فيها؛ ووصيته على أبنائه بألا يقعوا فيما وقع فيه من عيش بين أحضان الغرب يفتح ناظرينا على نبذ ورفض الغرب، فها هو مصطفى سعيد يفضّل العيش في قرية صغيرة نائية في بلاده على المكث في بلاد الغرب العمرانية وهو الذي قضى ردحًا من شبابه فيه وخَبَرَ أهلها وناسها.
وأما في رواية (الأصولي المتردد) فقد ظهرت العلاقة بين الشرق والغرب فيها على طابعٍ عسكري؛إيديولوجي، فقد أصبحت أمريكا تتعامل مع الشرق والمسلمين بعامة تعاملاً فئويًّا تخضع تعاملها معهم للهوية الشرقية الإسلاميَّة وذلك إثر أحداث الحادي عشر من سبتمبر، فقد درس الباكستاني شانجيز في جامعة هارفارد وتميز فيها فاستقطبته إحدى الشركات الكبرى للعمل فيها بمرتّب مغرٍ؛ وما أن حصلت تفجيرات سبتمبر حتَّى ضايقتهم الحكومة الأمريكية واضطرته للمغادرة عائدًا إلى بلاده باكستان، بيد أن الرواية تعطي فرقًا بين السلطة السياسيَّة الغربية وبين المواطنين في المجتمع الغربي؛ فالسياسة ظالمة وقد تعدى ظلمها من هم بين ظهرانيهم من الشرقيين المسلمين حتَّى وصلت إلى بلاد شانجيز باكستان فأوقعت الصراعات بين الهند والباكستان؛ لكن المجتمع الغربي يحمل ثيمة إيجابيَّة في الرواية، فلم ينسَ شانجيز مديره في العمل (جيم) الأمريكي الذي كان ذا مواقف رائعة معه، ويخبر شانجيز الرجل العسكري الأمريكي الذي سرد له هذه الرواية بأنّه «يجب ألا يعتقد أننا نحن الباكستانيين كلنا إرهابيون؛ وعلينا نحن أيْضًا إلا نعتقد أنكم أنتم الأمريكيين كلكم قتلة متخفون». وفكرة التفريق بين السياسي الغربي وبيَّن المواطن الغربي هي فكرة جديدة في الرواية التي صورت العلاقة بين الشرق والغرب فنلحظ البون الشاسع بين هذه الفكرة وفكرة العلاقة في الروايتين السابقتين (عصفور من الشرق وموسم إلى الهجرة للشمال).
فمن خلال هذه الروايات يلوح لنا التحول في فكرة العلاقة بين الشرق والغرب من الاحتقار والنظرة الدونية كما في عصفور من الشرق إلى الاستعمار - الاحتلال في موسم الهجرة إلى الشمال، ومن ثمَّ إلى علاقة عسكرية ظالمة لكنها تفرَّق بين المجتمع وبين السلطة السياسيَّة الغربية.
كما يلفت انتباهنا العودة إلى الشرق بعد سنين عديدة يقضيها الشرقي في الغرب؛ فقد وجّه (إيفان) صديقه محسن للعودة إلى الشرق، وعاد مصطفى سعيد ليموت في السودان، وانتهى الأمر بشانجيز أن يعود إلى بلاده وأهله في باكستان.
المرأة - الرمز للعلاقة الفكرية:
أعتقد أن المرأة في الروايات الثلاث وعلاقتها بالرجل الشرقي تمثِّل رمزًا لانعدام استمرار العلاقة الإيجابيَّة بين الشرق والغرب، فيفشل محسن في حبه لـ(سوزي) ويعود خائبًا رغم صدقه في الحب وتكرار محاولاته؛، بل إن (سوزي) جعلته جسرًا لتصل من خلاله إلى حبيبها الغربي الفرنسي الذي جلبته بفضول غيرته من محسن. ومصطفى سعيد يتحول زواجه من (جين) إلى نقمة عليه بسبب سجنه واتهامه بقتلها. و(إيريكا) تجعل من (شانجيز) صنمًا يذكّرها بحبيبها الأمريكي المتوفى، وما أن ملّت العلاقة به حتَّى اختفت دون أدنى اعتذار أو وداع.
فهل فشل علاقة الحب بين الرجل الشرقي والمرأة الغربية في الروايات ينبئنا عن فشل العلاقة بين الشرق والغرب؟!