عشق السينما عبارة عن مقالة فكاهية كتبها بطرس بخاري يعرض فيها شخصا يحب مشاهدة السينما ولكنه لا يذهب لمشاهدة الفلم وحده، بل يدعو صديقه المقرب لمرافقته، وصديقه هذا ذو شخصية باردة وبطيئة فيه من اللامبالاة الكثير مما يسبب له التأخير في الذهاب إلى السينما، ويتعاهد الشخص في كل مرة بعدم المجيء مرة أخرى معه إلا أنه يجد نفسه مضطرا ليأخذه...
بطرس بخاري
اسمه: سيد احمد شاه بخاري، واسم الشهرة: بَطرَس، ولد في الأول من أكتوبر عام 1898م في بيشاور، بدأ حياته العلمية بالدراسة التقليدية الرائجة آنذاك في شبه القارة الهندية، فدرس القرآن الكريم في البيت، ودرس الكتب الدينية والأدبية، وكان من النابغين، درس في الكلية الحكومية بلاهور، وأكمل دراسته في بريطانيا في الأدب الإنجليزي بعد أن ترك تخصصه في الفيزياء، عمل في راديو الهند لمدة سبع سنوات ابتداء من 1937م، وتولى العديد من المناصب الإدارية في حكومة باكستان حيث كان مندوب باكستان الدائم في الأمم المتحدة منذ عام 1950م، ترك أدبا فكاهيا جميلا في اللغة الأردية تناول فيها موضوعات شتى، كما كان ناقدا ومترجما ترجم بعض القصص الإنجليزية إلى اللغة الأردية، وله رسائل إلى معاصريه من الكُتَّاب والأُدباء، وتعد أدبا ظريفا في اللغة الأردية، لازمته الأزمات القلبية، ومات بسببها في الخامس عشر من ديسمبر عام 1958م في نيويورك، ودفن هناك.
عِشْقُ السِّينَمَا
.. عشق السينما، عنوان مثير للغاية، ولكن للأسف سيخيب ظنك وتوقعك فيه، لأني أريد أن أصدع في هذا الموضوع ما يكنُّه القلب من آلام، ولا تظن أنني لا أحب الأفلام أو أنني أنكر تلك الأماني والأشواق التي تتولد في القلب في ظلام السينما وموسيقاه، بل إنني معاتَبٌ في السينما من قِبل أولياء أموري منذ الصغر ، لكن السينما هذه الأيام أصبحت الموضوع الحساس بالنسبة لي بفضل صديقي مِرْزَا؛ لأنني أذكر بعض الحوادث المؤلمة التي وقعت في الماضي، وبسبب ذلك تغيَّرت شخصيتي على غير ما كانت عليه من استقامة...
* * *
لم نصل في يوم من الأيام إلى السينما في الوقت المناسب، ولا تظن أنَّ ذلك من كسلي، بل إن صديقي مرزا هو السبب الرئيس في ذلك، صحيح أنَّ مرزا صديقي؛ لكن يشهد الله أَنَّ الخسائر التي أَوقَعَتْنِيْ فيها صداقته لم يكن لعدوٍّ أن ينيلني إياها...
* * *
عندما أعزم الذهاب إلى السينما أسأل مرزا قبل الموعد بأسبوع:
- مرزا! ستذهب معي بالتأكيد إلى السينما الخميس المقبل؟ وأريد بذلك أن يتهيأ ويرتب أموره حتى لا تتكدر فرحتنا ذلك اليوم، فيرد عليَّ غير آبه:
- نعم يا أخي! سنذهب، لم لا؟ ألسنا من الإنس؟ أما يحق لنا أن نتنزَّه؟ ومن ثم أخبرني: هل جفوتكَ يوماً ما وقلت لك: لا أريد الذهاب معك؟!!..
أخجل من ردِّه، وأصمت برهة من الزمن، ثم أعود لأقول له في تأنٍّ:
- إذاً نحاول الوصول في الوقت المحدد، ما رأيك؟..
ولأن ضميره يستيقظ شيئا ما لا يخضع لقولي هذا، ولا أُصرُّ عليه أيضاً، لكنني أودَّ أن يعرف مرزا وقت افتتاح السينما، فأقول له:
- متى تفتتح السينما؟ الساعة السادسة.. صحيح؟
- يردّ عليَّ مرزا في هدوء: لا أدري..
- أظنُّ أنه يبدأ السادسة..
- يقول مرزا في ردِّه: ظنُّك هذا لا سند له ولا اعتبار..
- أقول له: أنا على يقين بأن السينما تبدأ الساعة السادسة...
- إن كنتَ على يقين فلماذا تهذي أمامي وتثرثر؟
- أخبروني أيها السادة! ماذا أقول له بعد ذلك؟
* * *
على كلِّ حال! أذهبُ يوم الخميس في الرابعة مساء إلى بيته على أمل أن أُجهزه حتى نصل إلى السينما في الموعد المحدد، لكني لا أجد أحدا، أبحث عنه في جميع الغرف، وأنظر من جميع نوافذ بيته، وأناديه لعلَّه يردّ عليَّ، إلى أن تضيق نفسي فأعود وأجلسُ في غرفته، وأبدأ في الصفير حتى عشر دقائق، ثم أبدأ في رسم الصور على الورق لمدة خمس عشرة دقيقة، وبعدها أشعلُ سيجارتي وأخرج في صالة البيت أناظر يمنة ويسرة، ولا أجد إلا صمتاً مطبقاً يخيم على المكان، فأعود إلى الغرفة وأبدأ في تصفح الجريدة، وأنادي على صديقي مرزا بعد كل عمودٍ أقرأه على أمل أن يكون قد عاد إلى الغرفة المجاورة أو العلوية، أو إن كان نائما فلعله استيقظ، وإن كان يغتسل فلربما يكون قد خرج، لكن صدى صوتي يذهب سدى، حتى أراه في الخامسة والنصف يخرج من الملحق النسائي، وأحاول قدر الإمكان أن أُخفي غضبي وأسأله بخلقٍ ووقار:
- هل كنت بالداخل يا سيِّدي؟
- نعم! كنتُ بالداخل..
- ألم تسمع صوتي؟!
- أوه... كنتَ أنت الذي تنادي؟!! ظننتُ أنَّ المنادي غيرك...
أغمضُ عيني وألقي برأسي للخلف كاظماً غيظي، وأسأله وشفتاي ترتجفان:
- إذاً تذهب معي الآن أم لا؟
- إلى أينَ؟..
- يا أخي! أما تريد الذهاب إلى السينما اليوم؟
- نعم! السينما .. السينما.. يردد ذلك ثم يجلس على الكرسي، ويقول: نعم! السينما.. كنت أفكر في أنَّ هناك أمراً ما لم يطرأ على بالي، أشكرك لأنّك ذكرتني وإلا عشتُ ليلتي في اضطراب...
- إذاً هيَّا نذهب الآن..
- نعم! سنذهب لكني فكرتُ في تغيير الملابس اليوم، ولا أعلم إن كان الغسّال أتى بالثياب أم لا.. يا صديقي! ابحث عمّن يغسلون لنا الثياب...
إن لم يَكِن القتلُ أمرا شنيعاً لكان قد وقع مني حينذاك، لكني رحمتُ نفسي وشبابي، وليس لي حيلة إلا أن أقول له:
- ارحمني لوجه الله يا مرزا، جئت للذهاب إلى السينما وليس للبحث عن الغسَّالين، إنَّك قليل الأدب، الساعة الآن تشير إلى السادسة إلا ربعا، وأنت ما زلت جالساً في مكانك..
ينظر مرزا إليَّ ويبتسمُ ابتسامة المربِّي كأنَّه يريد أن يظهر لي بأنه على استعداد بأن يُلبي طلباتي الطفلانية، ثم يذهب إلى الداخل قائلاً: دعني أغير ملابسي...
يتأخر مرزا في تغيير ملابسه وأنا أنتظره، ولو كان لي خيار قانوني لألزمته بعدمِ تغيير ملابسه مدى الحياة...
يأتي مرزا بعد نصف ساعة وفي فمه تنبول، وفي يده تنبول آخر، أقفُ وأمشي وحين أصل إلى الباب ألتفت إلى الخلف لأرى أن مرزا ليس هناك، أعود إلى الداخل وأرى مرزا واقفا في زاوية ينقب في شيء ما..
- هيا يا مرزا..
- يردّ مرزا في ضجرٍ مصطنع: أنا ذاهبٌ معك يا أخي، ما الداعي للاستعجال؟!..
- أقول له: ماذا تصنع؟
- يردُّ قائلاً: آخذ وأُجهِّز التنباك للتنبول..
- وطول طريقنا إلى السينما يمشي مرزا الهوينى، أَلتفتُ بعد لحظات فأراه خلفي على مسافة أربعة أو خمسة أقدام، فأنتظره ليلحقني فأمشي ثانية وأسبقه كالعادة ثم أنتظره وهكذا، ورغم أني أمشي أسرع منه بمقدار ضعفين أو ثلاثة أضعاف من مقدار سرعته إلا أنني في الأخير أصل معه...
نقطع التذاكر وندخل قاعة السينما فيواجهنا ظلامٌ دامس، أحاول أَن أرى فلا أستطيع، وينادي أحدهم قائلاً:
- اقفل الباب فضلاً..
يا الله!! أين أذهب الآن؟! لا أستطيع أن أرى شيئاً، لا الطريق ولا الكرسي ولا الجدار، ولا حتى الأشخاص، أتقدم خطوة إلى الأمام فيصطدم رأسي بالسطل المعلَّق على الجدار لإطفاء الحريق، ثم بعد مدة يسيرة تتراءى لي الأشياء جميعها ضبابية، وتظهر لي بقعة سوداء فأظن أن هناك كرسيا خاليا، فأَتوجَّهُ إلى تلك البقعة منحنياً، أعبر أرجل الجالسين، وألتحمُ بأقدامهم تارةً، حافظاً نفسي من أن يمس رجلي كعب امرأة، حتى أجلس في حضن رجلٍ خطأً، فينهرني فأقومُ فيدفعني الناس واحداً تلو الآخر حتى أصل إلى الكرسي الخالي، فأقول لـ»مرزا»:
- ألم أكن أهذي أمامك بتعجيل المسير، لقد جعلتني أُضحوكة أمام الناس يا حمار!! ..
وبعدَ أن انتهيت من أداء هذه الكلمات الرنَّانة علمتُ أن الجالس على الكرسي ليس مرزا بل رجل آخر...
أتوجَّه إلى الفلم ساعياً لمعرفة وقصته، وما الذي فاتني منه، ولا أرى إلا رجلا وامرأة متعانقين وأفهم أنهما يحبان بعضهما، أنتظر لعلَّني أرى كلمات تشرح المحتوى، إلا أنَّ الشخص الجالس على الكرسي الأمامي يبدأ في التمغُّط فيحجب عني الرؤية فيفوتني جزء من الفلم، وما إن ينتهي من عمله هذا يبدأ في حكِّ رأسه، ولا يخفض يديه بل يضعهما مستندا عليهما في المشاهدة، أضطر إلى أن أنخفض لأظفر بمساحة أستطيع من خلالها مشاهدة الفلم، ويظهر من خلال جلوسي بهذه الطريقة كأني لصٌّ دخلتُ القاعة بلا تذكرة...
وبعد مدة يسيرة يحسُّ الرجل ببعوضة تحوم حول الكرسي، فيميلُ من الجهة اليمنى إلى اليسرى، وبالتالي أُغيِّر جهتي أَيضاً لتتضح لي الرؤية، فتعودُ البعوضة هاجرةً إلى الجهة الأخرى، فيميل معها الرجل عائداً إلى وضعه الأول، وأعودُ أنا حيثُ كنتُ، وهكذا يتكرر الموقف مرَّاتٍ وكرَّاتٍ، ولا يعلم ذلك الرجل عن هذه اللعبة التي تدور أحداثها بيني وبينه في الظلام، ومن فرطِ غضبي أتمنى شراء تذكرة للدرجة الأمامية لأجلس أمامه وأقول: شاهد الآن يا بنيَّ، كيف تستطيع المشاهدة...
يناديني مرزا من خلفي قائلاً:
- يا صاحبي! لم لا تجلسُ بطمأنينة وسكون؟ لقد جئت بي معك إلى السينما، دعني أشاهد الفلم..
أغمضُ عينيَّ في غضبٍ، وأفكر في قتل العمد والانتحار وشرب السمّ، وأقول في نفسي: تبّاً لهذا الفلم، وأحلف مئات المرّات بعدم العودة هنا مجدداً، ولو جئتُ لن أذكر لمرزا أبداً، سأحضر قبل بدءِ العرض بخمس أو ستِّ ساعات، وأجلس على مقعدٍ من مقاعد الدرجة الأولى ألهو وأقفز عليه، سأَعتمّ بعمامة ذي طرفٍ مرفوعٍ كبير، وسأجلب معطفي معي وأعلقه على عصاتين، لكني لن أقتربَ من مرزا مطلقاً...
لكن ما الذي أستطيع فعله مع قلبي؟ لأني عندما أشاهد إعلاناً جديداً عن فلمٍ جيد أذهب مباشرةً عند مرزا، أقول له كالعادة: ستذهبُ معي إلى السينما الخميس القادم بالتأكيد؟!!