لو افترضنا أن ثمة فضائيتين تعرضان برنامجين مختلفين، الأولى تعرض لعبة كرة القدم، والثانية تعرض فيلمًا سينمائيًا جديدًا لمخرج تألق في عالم السينما، وأردنا أن نعمل إحصائيَّة بعدد المشاهدين بين البرنامجين، لكانت نسبة مشاهدة لعبة كرة القدم أكثر من تسعين بالمئة من المشاهدين.
هي ثقافة كرة القدم السائدة وتراجع قيم الجمال وتراجع قيم التزوّد بالمعرفة وتراجع حالة التأمل وسيادة حالة التوتر والرغبة في الانتصار الفارغ بين شعبين وبين فريقين، انتصار يُؤدِّي إلى تهشيم نوافذ زجاج البيوت وزجاج السيَّارات وحرقها ولعلعة الرصاص في سماوات المدن.
ذهبت ذات يوم لجلب زوجتي من السوق الشعبي في هولندا تاركًا ابنتي وحدها في البيت ولم أكن أعرف أن ثمة لعبة كرة قدم بين الأتراك وبين بلد آخر لا أعرفه، ونكاية بالأتراك فقد انحاز أكراد تركيا للدولة الثانية. فما كان من أصحاب الدكاكين التركية إلا وأطلقوا النار على الأكراد المحتفلين بفوز الفريق المنافس للفريق التركي.
كنت حينها وسط السيَّارات في سيارتي التي وقفت في مكانها وسط تبادل إطلاق نار وإصابة مواطنين وسيَّارات في منطقة تحت الجسر المؤدي إلى السوق الشعبي في لاهاي.
بقيت زوجتي في السوق وابنتي في البيت وأنا وسط نيران المسدسات التي لا أعرف كيف يحتفظون بها في بلد مسالم مثل هولندا.
مرَّ الحادث بسلام بعد أكثر من ساعة من التوتر وقف خلالها البوليس الهولندي جانبًا تحت شعار «بأسهم بينهم». لا يمكننا أن نقف في وجه التيار الذي خلقته قوى تحرك العالم عبر إعلامها ووسائل تعنيفها للحياة وللاستقرار. لا أعرف شيئًا عن هذه اللعبة، لعبة كرة القدم. بالتأكيد هناك توقيت في اللعب وهناك تكتيك وهناك رياضة ركض واستخدام خاطئ للدماغ حيث يوظف الرأس لضرب كرة المطاط والجلد المنفوخة بدلاً من رياضة التفكير وترويض الدماغ لاستقبال قيم فكرية وفنيَّة جماليَّة أو لكتابة تلك القيم الفكرية والفنيَّة الجماليَّة في رواية في قصيدة في لوحة في فيلم سينمائي.
يصعب عليَّ متابعة الحالة الرياضيَّة طوال تسعين دقيقة ومتابعة كرة المطاط الجلدية تتداولها أقدام اللاعبين وسط هياج الجمهور تمامًا مثل صراخهم أمام ثور هائج مطلوب قتله بوحشية من قبل مصارع الثيران برمح في عنقه ليهدي مصارع الثيران البرقع الأحمر إلى حسناء من حسناوات المشاهدات المسكونة بالسادية والماسوشية. يسمونه فن الملاكمة لشخصين عنيفين تحجب قوالب البلاستيك أسنانهم خوفًا من التهشيم، ويبقى محمد علي كلاي مشلولاً في آخر العمر من ضربات وجهت إلى دماغه.
يا للجمهور المتهافت على الصراخ وقدرة إطلاق العواطف المؤذية للذات وللآخر وصولاً إلى إطلاق النار على مشجِّعين غيظًا ونكاية.
روح الثقافة متراجعة ورؤساء البلدان يستقبلون لاعبي كرة القدم ويهيلون عليهم أوسمة المجد بالانتصار في أمم مهزومة أمام الأعداء ومهزومة أمام التطوّر ومهزومة أمام الحضارة ومهزومة أمام الثقافة.
الحقيقة يا أصدقائي المثقفين نحن المهزومون الحقيقيون أمام ملاعب كرة القدم فتعالوا نقضي ليالينا في زوايا ملاعب الدماغ الليلية نبث همومنا ونتحدث عن رواية صادرة أو رواية سوف تصدر وعن قصيدة شعر كتبت أو أنها سوف تكتب ونتحدث عن فيلم سينمائي آتٍ بدون صالات سينما حيث هدمتها الحروب، حروب الدكتاتوريين والبلدان المستعمرة والغازية. لم يبق ثمة شيء يدعو إلى الفرح. حقيقة لا شيء. ونحن ربَّما في تلك الزاوية ليلاً نتحدث عن هم ثقافي أو فرح صغير يصر صاحب الزاوية الليلية أن يفتح جهاز التلفاز ليعرض القناة الرياضيَّة ويفرض علينا لعبة كرة قدم وسط صراخ الجمهور... كوووووول. ضربة نادرة. هدف رائع رائع شاهدوه مرة ثانية. المذيع يعلن عن مباراة ودية بين فريقين، ذلك يعني بأن هناك مباراة غير ودية. والحقيقة لا توجد مباراة ودية وأخرى غير ودية. كل المباراة غير ودية. هي زراعة الحقد وزراعة الضغينة بين الشعوب. وكل هذه الثقافة مرسومة ومدروسة ولها مافيات لها مراكز قوى في مسار الحياة الإنسانيَّة. الهدف هو تدمير الحس الإنساني وتدمير فكرة الارتقاء نحو التأمل ونحو فك رموز الحياة المعقدة والملتبسة منذ ملايين السنين التي تضيع وسط هياج الجمهور وصراخه من أجل كرة مطاطية جلدية تدخل في شباك الهدف، فيجن الجمهور ويسود التخلف أممًا شتَّى نحن في مقدمتها!
- هولندا k.h.sununu@gmail.com