عندما نتناول المصطلح والمفهوم الذي انبثق منه ونقول: إنّه نتاج الصراع العام وأداة له، لا بُدَّ أن نفهم المصطلح من خلال نشأته وتطوّره اللغوي والتاريخي والعملي، أيّ استخداماته في خضم الصراع الاجتماعي العام، الذي يبقي المجتمعات المختلفة والمجتمع البشري في تطوّر دائم.
لا يجوز فهم المصطلح واستخدامه خارج إطار هذا التطور، لأن في ذلك إخراجًا من السياق وتجريد المصطلح من وظيفته الأساسيَّة.
من أجل تسليط الضوء على التطوّر الاجتماعي نبتدئ أولاً من أن المحصلة العامَّة لهذا التطوّر هي تصاعدية باستمرار، أما سرعة التطوّر ليس ثابتة. فقد يستطيع فرد أو مجتمع ما، التسريع من عملية التطوّر إلى الدرجة القصوى، ولكنه لا يستطيع القفز فوق التاريخ ومراحله. كما يستطيع فرد أو مجتمع ما لجم عملية التطوّر إلى حدها الأدنى، ولكن لا يستطيع إيقاف التطوّر عند نقطة تاريخية ثابتة.
فاعلية الأشخاص والمجموعات في التاريخ واضحة وجلية، ولكن تبقى العملية التاريخية جارية ضمن قوانين (ابن خلدون). وهي لا تجري بصورة مستقيمة إنما متموجة:
لو تأملنا الرسم البياني التقريبي هذا نجد أن التطوّر الاجتماعي يتكون من نهوض يليه انحطاط، ثمَّ نهوض آخر وانحطاط آخر.. وهكذا.
كما أن النهوض الأقدم يستغرق زمنًا أطول للتراكم والاستكمال، بينما النهوض الأحدث يستغرق زمنًا أقل وكذلك الانحطاط، أما المحصلة تبقى تصاعدية.
في زمن النهوض الاجتماعي يتنامى الدخل الاقتصادي ويليه التطوّر السياسي، بمعنى شكل الدَّوْلة والمؤسسات والحقوق، ويتبع كل ذلك السمو الفكري والإبداعي والعرف الاجتماعي والعلاقات الداخليَّة والخارجيَّة. هذا التنامي يسمى (تراكمًا)، وهو ما يجري حتَّى خلال الانحطاط ويسمى (احتقانًا) ويُؤدِّي في النهاية إلى التغيّر.
قد يبدو المجتمع ثابتًا لا يتزحزح خلال فترة الانحطاط، ولكن بالتمعن بالمؤشرات الاجتماعيَّة، كنسبة التَّعليم والإنتاج والكوادر واستحداث المؤسسات المنظمة لها، نجد دليلاً قاطعًا على التراكم الذي يفضي بالضرورة إلى التغيّر.
هذه السمات العامَّة تنطبق على كلٍّ مجتمع على حده وكذلك على المجتمع البشرى بشكل عام، خصوصًا أن العالم أصبح قرية واحدة بعد التطوّر التكنولوجي الحديث.
النهوض الاجتماعي ينتج مفكريه وفنانيه وشخصياته القياديّة ورواده ومجرميه أيضًا. لا يمكن أن تجد فيلسوفًا مثل ابن رشد فيما قبل الميلاد، ولا شاعرًا فذًا مثل بدر شاكر السياب في القرن السادس عشر، ولم تظهر أسماء لامعة في أوروبا عبر التاريخ كما ظهرت عشية الثورة الفرنسية.
ما أريد قوله: إن النهوض الاجتماعي هو ما الذي يصنع العظماء وليس العكس، أيّ أن المجتمع هو الذي يصنع المجتمع والتاريخ.
إبان الانحطاط في التطوّر الاجتماعي قد يحصل تراجع فيما تَمَّ سابقًا من إنجازات، كمحاولة يائسة من القوى السلبية لإعادة عجلة التاريخ إلى الوراء، ولكن ذلك يُؤدِّي للاحتقان، الذي لا بُدَّ له أن يفضي في النهاية للسير إلى الأمام وتدوير عجلة التاريخ.
التطوّر الاجتماعي متموج والانتقال من موجة إلى أخرى قد يكون تدريجيًّا وبطيئًا وقد حصل ذلك في الكثير من المجتمعات، ولكنه يحصل أحيانًا على شكل (قطع) يسمى (ثورة) إذا كان يخدم التقدم، ويسمى (انقلابًا) إذا كان العكس. لا أقصد هنا التحركات العسكرية، فالجيش جزءٌ من المجتمع وتحركاته ثورة إذا كانت تخدم التقدم وهي انقلاب إذا كانت تمنع التغيّر.
لو تمعنا بالرسم البياني السابق، نرى طول الموجة كبيرًا في البداية، ثمَّ يقصر تدريجيًّا كلما تقدمنا للأمام. كما أن ارتفاع الموجة يكون كبيرًا في البداية ويتضاءل تدريجيًّا أيْضًا لتصبح الموجات في النهاية كأسنان المنشار، ثمَّ تندمج بشكل مستقيم مع المحصلة.
جاء الرسم البياني بهذه الصورة للدلالة على أنّه توجد بداية للتطوّر المتموج ذات السمات المذكورة سابقًا. قبل تلك البداية لم يكن هناك فرد يملك وآخر لا يملك، كانت المجتمعات البدائية تأكل ما تنتجه، ثمَّ اكتشفت النار والفخار (الأواني المنزلية للحفظ والطهي) والحديد (سلاح الصيد والحراثة) واكتشفت الزراعة وتتدجين الحيوانات، فأصبح هناك فائض بالإنتاج وكانت ملكية هذا الفائض تعود للجميع، أيّ ملكية عامة. بعد ذلك وبعملية طويلة الأمد قد نتطرَّق لها فيما بعد ظهر من يملك ومن لا يملك، أيّ الملكية الخاصَّة.
(الملكية الخاصَّة) تختلف اختلافًا كليًّا عن (الملكية الشخصيَّة)، فالمقصود بالشخصيَّة: الملابس والأحذية والأدوات المستخدمة للفرد ذاته، أما الملكية الخاصَّة هي ملكية الأراضي والمياه والمراعي والمصانع والغلات الزراعيَّة والإنسان نفسه (سيد وعبد).
لقد انتقل الفائض الإنتاجي أو الملكية العامَّة إلى الملكية الفردية أو الخاصَّة، وكانت تلك النقلة هي بداية التموج في التطوّر الاجتماعي، ولكن ما له بداية لا بُدَّ وأن تكون له نهاية. الملكية الخاصَّة ظهرت في حقبة تاريخية معينة وقسمت المجتمع إلى مالكين يضطهدون من لا يملكون، وهي ستختفي في حقبة تاريخية قادمة وأظنها ليست بعيدة، فبوادرها ظاهرة حاليًّا، وهذه الحقبة تتميز عن سابقاتها ليس في الإنتاج الأعلى وحسب، بل في إنهاء المافيات التي تحكمت بمصائر البشر طوال التاريخ.
النهاية لن تكون للتطوّر العام، بل للملكية الخاصَّة، التي حوَّلت الإنسان إلى مغتصب لحدود الآخر، ولكن التطوّر مستمر، وسينطلق انطلاقة جديدة من دون تموج، أيّ من دون عذابات، ولكن بضوابط موضوعة ومقرة بشكل جماعي وخاضعة للتطوير والتغيّر بشكل (ديمقراطي) وليس بشكل فردي (دكتاتوري).