Saturday 30/11/2013 Issue 419 السبت 26 ,محرم 1435 العدد
30/11/2013

الوصفي والتقويمي في رؤية طه حسين للثقافة العربية (3)

لا يمدح طه حسين المتنبي في موقف مثلما يمدحه لإحرازه حريته عند عضد الدولة في شيراز. إذ «لم يكد يتقدم في طريقه إلى شيراز حتى زال عنه الحرج وانحط عنه الثقل، وحطم القيد الذي كان يمسك خياله ويمنعه أن يطير، وإذا هو يبلغ من الشعر طبقة خليقة باسمه، وخليقة بمكانه». وقد مضى طه حسين ليدلل بكثرة الشعر الذي قاله وتنوعه في الفترة التي قضاها عند عضد الدولة على الرغم من قصرها، وأن نشاطه في هذه الفترة قد رد إليه حريته كاملة سواء في تغنيه غربته وحنينه أم في إعلانه الإيثار للشعب العربي الفصيح الكريم على الشعب الفارسي الأعجمي الذي لا يحسن القِرى. بل تجاوز هذه الحرية الشخصية إلى حرية لغوية تجاه أصول النحو والعروض والقافية وتجاه قيود النظم المألوفة. ومن أجل هذه الحرية التي أكسبت المتنبي ما يرقى به إلى النموذج الشعري الذي يؤثره طه حسين، نجده يعلن أن «هذا القسم من شعر المتنبي... من الناحية الفنية الخالصة، آثره عندي، وأعجبه لي، وأحبَّه إلي».

ولا تتكامل النموذجية التي يؤثرها طه حسين عند شاعر عربي قديم مثلما تتكامل لديه في أبي العلاء المعري في الطور الثالث من حياته بعد أن اعتزل الناس وأخذ نفسه بقانون صارم. وهو يلح على الكشف عنها لدى أبي العلاء بالقياس إلى شخصيته ومواقفه، وبالقياس إلى غيره من الشعراء خصوصاً المتنبي. فشخصيته وعواطفه تظهر في شعره في الطور الثالث، وهو شديد الاعتراف بشخصيته، قليل الفناء في غيره. ويمضي إلى موازنته بالمتنبي، فهما حكيمان لكن المتنبي ينتحل الحكمة ويتكلف الفلسفة، وأبو العلاء لا يعرف التكلف ولا الانتحال. والمتنبي متكسب بشعره، وأبو العلاء لم يذق لشعره ثمرة مادية في حياته. والمتنبي محب للدنيا وأبو العلاء مبغض لها زاهد فيها. وتمضي هذه الأوصاف المتقابلة بين الشاعرين إلى تواضع أبي العلاء وأنفته، وكرمه وهو الفقير وحرصه على الصدق وحذره من التزييف والانتحال، ومفارقته لشعر الهجاء وعدم إحسانه للمديح... وهي الأوصاف التي يقع المتنبي بالضد منها. وهي أوصاف يزكو بها المعري لدى طه حسين مثلما يزكو ببعده عن سذاجة المعنى وقلة تركيبه التي هي أقرب إلى صفة الأعراب، وإحداثه فن الفلسفة في الشعر العربي بالقصد إلى إثبات النظريات الفلسفية المختلفة قصداً يباين المألوف لدى شعراء الحكمة حين يستقونها من تجارب الحياة كما فعل زهير أو من الدين كما لدى أبي العتاهية أو من فلسفة الأخلاق كما المتنبي.

هكذا نرى أن الفردية هي أبرز مكونات النموذج الفاعل للثقافة، والقيمة الإيجابية للفعل الثقافي المترتبة عليه لدى طه حسين. وهي فردية تستلزم الحرية والاستقلالية التي كانت فردية المتنبي خلواً منها لأن التناقض بين السلوك والشعور، أو بين الشعر والشخصية لديه، دليل على تعثُّر فرديته في القيود وخضوعها للاضطرار. لكن هذه الفردية لا تكتمل في النموذج خارج حسابات المسؤولية والتبعة، وهي مسؤولية يصبح المثقف بها ضميراً للمجتمع ومعلِّماً له ووعياً بصيراً لإنارته. وإذا كان مثال أبي العلاء الذي تنطبق أكثر صفات النموذج ودلالات القيمة لدى طه حسين عليه، مثال قليل الشيوع في الثقافة العربية بل إنه مثال نادر، فإننا نستدل بدلالة هذه القلة والندرة للنموذج على قصد طه حسين إلى الكشف عن معضلة الثقافة العربية وأبرز معوقات فعلها، وهو شيوع نموذج ثقافة العبيد، لا ثقافة الأحرار. ولقد نقول إن النقد الذي نال طه حسين بسبب كتابه «عن المتنبي» لا يختلف عما ناله في كتبه الأخرى، لأنه يمس عصباً جوهرياً في الثقافة بالقدر الذي تدلل عليه حظوة المتنبي وشهرته ومكانته العالية فيها.

ولا يبدو أن طه حسين يضيق بشيء مثلما يضيق بارتهان المثقف للسلطة، ولئن كان المتنبي أوضح مثال على فقدان المثقف موقعه في الثقافة ودوره وفاعليته القيِّمة بقدر اضطراره إلى الارتهان لمشيئة الأمراء والولاة، فإن أحمد شوقي في العصر الحديث مثال آخر على ذلك الفقدان. فقد كان «التأثر بحياة القصر يفرض عليه ألواناً من القيود لم تكن تتفق مع ما كان يحاول من التجديد... كان فيما بينه وبين نفسه يشعر بحاجة إلى الحرية، وإلى الحرية الواسعة البعيدة المدى، وإلى هذه الحرية في الفن بنوع خالص. ولكنه حين يتصل بأسرته وحين يتصل بالقصر وحين يتصل بأصحاب القصر كان يضطر إلى أن يصانع ويجاري ويداري ويخضع لهذه القيود التي تفرضها عليه الحياة الرسمية».

وهكذا استحال أحمد شوقي إلى موظف في القصر برتبة شاعر، وهي وظيفة محببة إليه فيما يشير طه حسين، لأنها «حياة هيِّنة ليِّنة تتيح له ما يحب من هذا الامتياز وهذا الظهور ومن هذه العيشة التي تفصل بينه وبين الدهماء، وترفعه فوق رقاب الناس». والحديث عن رضا شوقي بحياة القصر وأنسه بها، يقصد -لدى طه حسين- الإشارة إلى فقدانه للمسؤولية عن شعره تجاه ضمير ه وتجاه مجتمعه وتجاه الشعر ذاته، فقد أخضع فنه لتلك الحياة، ونشأ أسير هذا الخضوع. وقد بدت الأحداث التي عاشتها مصر مادة للتمثيل على هذا الفقدان أو الغياب الذي مثَّله شوقي، وبدت الأحداث المتصلة بالثقافة والسياسة أكثر ملاءمة للتدليل، فطه حسين يذكر وفاة محمد عبده وقاسم أمين ومصطفى كامل، أي تلك الأسماء التي كان لها مكانتها الشعبية وهي مكانة ثقافية بامتياز لمحمد عبده وقاسم أمين وثقافية وسياسية لمصطفى كامل، وحين حاول شوقي رثاءهم لم يبلغ من رثائهم شيئاً لأن ظروف السياسة وسياسة القصر خاصة تفرض عليه التحفظ والاحتياط.

وكما هو أسلوب طه حسين في التدليل على القيمة الشعرية والثقافية بالموازنة بين الأسماء الشعرية والثقافية، بحيث يتراءى لنا اصطفافهم على سُلَّم تتدرج به منازلهم لديه وتتفاوت منازلهم وتتقارب، فإن أحمد شوقي يشبه المتنبي، في اشتمال حياته الفنية على التناقض بين إرادته الحرية ومعيشته في القيود، وهو أثر بدا لدى شوقي كما بدا لدى المتنبي في تلك الإجادة التي تظهر لديهما عند محاولة كل منهما الحديث عن ذات نفسه، وفي اضطراره، إذا قصد إلى مديح أو إلى فن من الفنون التي لا تحبها نفوس الشعراء وإنما تستجيب فيها للظروف أكثر مما تستجيب فيها للفن، أن ينشئ قصيدته في قسمين: يختص بالقسم الأول نفسه، ويعطي القسم الآخر لهذا الغرض الذي يقول فيه الشعر. كما يظهر في ثنائية شخصية الشاعر فهو زاهد ومحب للحياة ولذاتها في وقت معاً، وفي الصناعة الشعرية التي تُظْهر للشعراء شخصيات مختلفة تخفي شخصيتهم الأولى.

ولئن استدعت العلاقة بين شوقي والمتنبي صفة التشابه، فإن التفاوت والتضاد يستدعيان الموازنة بينه وبين معاصره حافظ إبراهيم. وهو تفاوت وتضاد يكتسب بهما حافظ إبراهيم القيمة لدى طه حسين لبعده عن سلطة القصر ومخالطته للشعب وبروزه من طينته. فحافظ –على عكس شوقي- «نشأ نشأة شعبية خالصة وهي إلى الفقر أقرب منها إلى الغنى»، و»عاش محالفاً للبؤس... حتى حين انجلى عنه البؤس.. كان يحس البؤس في نفسه وكان يعطف دائماً على البؤساء، وهذا كله يظهر في شعره.. من حيث إنه أحس نفس الأشياء التي كان الشعب يحسها». ولذلك –يقول طه حسين- «لم أعرف شاعراً مصرياً معاصراً أحبه الشعب كما أحب حافظاً، ولم أعرف شاعراً مصرياً معاصراً استطاع أن يكون في الشعراء ترجماناً ناطقاً عن الشعب كما كان حافظ». ويلفتنا في هذه الموازنة تفريق طه حسين بين الموهبة والحصيلة الثقافية من جهة وبين الموقف والانتماء من جهة أخرى، فشوقي «أعمق ثقافة من حافظ.. وأخصب ذهناً وأذكى قلباً وأنفذ إلى معاني الشعر». لكن نتيجة الرجحان هنا لا تزن قيمة على مستوى الموقف والانتماء اللذين كسبا القيمة عند حافظ، لأنه كان شاعر الشعب لا شاعر القصر.

ولقد أنتجت الموازنة بين شوقي وحافظ وخليل مطران تفوقاً لمطران، فإذا كانت مثلبة شوقي عبوديته للقصر، وكانت منقبة حافظ تعبيره عن الشعب، فإن مطران أوضحهما دلالة على الحرية والانفتاح على الجديد وإبراز قوة ذاته وإثبات شخصيته، وبهذه الصفات ارتقت قيمته و»كان مكانه من حافظ وشوقي مكان الأستاذ والرئيس». وأستاذية مطران ورئاسته هما دلالة القيمة ووصفاها لدى طه حسين، وهي قيمة يزن الشعور بالحرية فيها قيمة عالية، لذلك لا يبدو أن العبودية مقصورة على الارتهان للقصر بل تشمل الارتهان للشعب، فكلاهما حاجز عن تأدية الفن وظيفته الإبداعية التي لا ترتهن إلى شيء إلا إلى الحرية. وليس نفي طه حسين أن يكون الفن وسيلة وتأكيده على الدوام أنه غاية في ذاته إلا المرجعية الأساس لقيمة الحرية التي يزكو بها الفن لديه. ولقد ذكر طه حسين من أسباب امتياز مطران أنه «كان أكثر من صاحبيه عناية بفن الشعر، وأكثر من صاحبيه تتبعاً للشعر في البلاد الأجنبية وفي اللغات الأجنبية... وكان كثيراً ما يتحدث إلى صاحبيه في هذه الأشياء وكثيراً ما يحاول أن يخرجهما عن التقليد الصرف ويدفعهما إلى شيء من محاولة التجديد». وكلها صفات لمطران تصب في ميزان القيمة لأنها دلالة شعور بالحرية، فالعناية بفن الشعر هي وجه للتحرر من الغرضية والموضوعاتية التي تشد إلى الواقع وإلى المنفعة، والمعرفة للشعر في الثقافات الأخرى مثل التجديد وجهان للحرية، تتحرر بهما الثقافة من ضيق المعرفة وضآلة الخبرة ومن التقليد، إنهما وجهان للاتساع. ولم يفت طه حسين أن يؤكد على الذات بوصفها مدار الوعي بالحرية ومصدر إرادتها، ولذلك فقد كانت دلالة الشعور بالحرية تظهر في «قدرته على التصرف في اللغة وعلى إخضاعها لما يريد دون أن يخضع هو لما تريد اللغة».

لكن الموازنة تأخذ بعداً آخر للتفاوت في القيمة من جهة الدلالة على الحرية والاستقلال والاتساع بالفن، وذلك في موازنة طه حسين بين حافظ وشوقي والمنفلوطي من جهة، والعقاد والمازني وهيكل من جهة أخرى. «فقد كان الأدباء الثلاثة الأولون لا يعيشون لأدبهم وإنما يعيشون بأدبهم» و «كان كل واحد منهم في حاجة إلى حماية تكفل له ما يحب من العيش والمكانة». وذلك على العكس من الثلاثة الآخرين، فهؤلاء «ثائرون على هذا النوع من الحياة، مبغضون لهذا النوع من الأدب» إنهم «يعيشون أولاً ويعيشون أحراراً، ثم ينتجون أولاً وينتجون أحراراً. وهم يأبون أن يؤدوا عن إنتاجهم الأدبي حساباً لهذا أو ذاك، هم مستقلون في إنتاجهم الأدبي بأدق معاني هذه الكلمة وأكرمها». وقد نتج عن هذه الحرية استقلال للفن وإجادة واتساع، فلم يعد الأدباء المحدثون –كما هو حال القدامى والمقلدين لهم- يؤثرون السادة والعظماء بما ينتجون، بل أصبحوا يؤثرون أنفسهم ويؤثرون الفن ويؤثرون الشعب بما ينتجون.

وهذه الموازنة الأخيرة هي خلاصة ما يدل على أعلى درجات السلم في القيمة الفنية والثقافية للأدب لدى طه حسين. وهي تدلنا على مشكلة التطور في الثقافة العربية، بحسب تصوره لدى طه حسين، وهو افتقادها إلى المثقف المستقل الذي تتجدد به وتتسع وتتخذ موقفاً من الواقع. وهذه نظرة مستقبلية للثقافة العربية، ما زالت وستبقى تجاهد في سبيلها. لكن المهم هنا هو الفلسفة التي تنبني عليها رؤية طه حسين في الإحالة على الذات الفردية من دون أي حسبان للنظريات الشمولية والكليانية التي يندرج الفرد في كل منها، على حساب استقلاله وفاعليته. ومن غير شك لم يكن طه حسين ينظر إلى الفرد معلَّقاً في الهواء لا ينخرط في ما هو أوسع وأعمق منه من جهة البيئة والمجتمع والتاريخ والثقافة، فالفرد يصوِّر ذلك في إنتاجه ويعيد تمثيله، وسواء أكان الأديب منعزلاً أو مشاركاً لمجتمعه، فإنه لا يكف –فيما يرى طه حسين- عن الاتصال بالواقع، لكن اشمئزازه من الشعراء المستعبدين لخدمة العِلْية المتسلِّطين، هو الوجه الآخر لإخفاق أبي العلاء الذي «لم يخفق في شيء كما أخفق في محاولة الابتعاد عن الناس». وهذه نظرة مثالية تصدر عن استقلالية الذات العارفة وإنتاجها وأخلاقها، ولذلك كانت موضع نسبة للقيمة الفنية والثقافية.

- الرياض