مما أشار إليه فلاسفة العقل في مرحلة التنوير، أن هناك علاقة وطيدة بين الاهتمام بالمعرفة وتطور آليات العقل البشري. فقد التزم كانط في «نقد العقل المحض» ببناء نظرية للمعرفة؛ تبين ما يجب أن تكون عليه بنية الشخص العارف وطبيعة الشيء المعروف، حتى تتأمن موضوعية المشروع الفيزيائي، منذ كوبرنيكوس وغاليلي وصولاً إلى نيوتن ولافوازييه. هذه النظرية أدت - كما هو معروف - إلى إبراز شرعية المعرفة العلمية، ووهم المعرفة الميتافيزيقية، المعرفة التي تطمح في الوصول إلى المطلق. فقد حدد الوضع الميتافيزيقي للعلم، والوضع العلمي للميتافيزيقا؛ وهو في هذا عرض مسألة ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالمنطق، أي بمصداقية الأحكام التركيبية القبْلية. فالحكم بأن لكل حدث سبباً يحدث حكم قبْلي لا يرتكز إلى التجربة. فنحن لا ندرك الأحداث التي سوف نختبرها، لكننا واثقون سلفاً من خضوعها لقانون السببية الذي لا يستمد من تصور الحدث.
فقد كان كانط ينظر إلى العقل البشري المنظم للتجربة الحياتية، والمشرع للطبيعة ليس على أساس المبادئ الفطرية التي أقرها ديكارت من قبل، بل بوصفه هو نفسه جملة من القوالب القبْلية (صورتا الزمان والمكان والمقولات) التي هي مكونة من قوالب فارغة تملؤها الحدوس الحسية، فتحول إلى معرفة، هذه الحدوس التي تظل عمياء من دون تلك القوالب، حسب تعبيره. ووفقاً للقانون المنطقي الوجودي، الذي يفترض وجوداً فعلياً لأشياء، ويسميه الوجود بالفعل، ووجوداً نظرياً لأشياء أخرى، ويسميه الوجود بالقوة؛ ننطلق في تقسيم فئتين من البشر: الأولى موجودة على أرض الواقع، تخطط وتبني، وتنتمي إلى الوجود الفيزيائي الفاعل، والأخرى موجودة حسابياً في سجلات سكان الأرض، تتخيل وتنفث، ولا تمت إلى عالم الواقع بصلة وطيدة، وتفهم منطق الأمور بشكل مقلوب، أو بناء على قواعد تتوهمها واقعاً.
المشكلة الكبرى أن الهوة تتسع بين الفئتين؛ ففي حين تزداد الفئة الموجودة بالفعل التصاقاً بالواقع، وعملاً على التخلص من أزمات العصور التي هيمنت فيها الخرافة على عقول الناس، تمعن الفئة الموجودة بالقوة في بناء المزيد من الأوهام، وتتصور أنها تعيش في الكون بمفردها، وأن قوانين الطبيعة لا بد أن تستجيب لإرادتها.
فإذا أخذنا معادلة فلاسفة العقل في مرحلة التنوير بالحسبان، فإن تلك العلاقة بين الاهتمام بالمعرفة وتطور آليات العقل البشري قد حورها أولئك الموجودون بالقوة إلى علاقة بين تصورات المعرفة ومداخل الخرافة في تاريخ البشر. يطلقون الأحكام العامة على كل من لا يتفق مع رؤاهم للكون، وينطلقون في تصوراتهم من رؤى اختزالية للعالم؛ في أن حدوده تقف عند ما تصوروه يوماً هيكلاً جاهزاً للمعرفة تغرف منه كل الأجيال حاجتها من تكوين أطر العلم، ونشاطات الحياة المختلفة. وعلى أقوالهم المشهورة: «ما ترك الأول للآخر شيئاً» يسيرون بطمأنينة يحسدون عليها.
وفي المقابل ينطلق من سواهم من الموجودين بالفعل في تعمير الأرض، وتطوير أساليب الحياة، بل وفي تزويد تلك الفئة الموجودة بالقوة بما يعارضون به جهود هؤلاء من وسائل؛ أي أن الفئة الموجودة بالقوة لم تبتكر حتى وسائل نقدها للآخرين. أمم تتنافس في صناعة ذرى المجد، وتتحدى نفسها في كل مرحلة؛ لا يلتفتون لما مضى، إلا من أجل أخذ العبرة منه، والانتقال إلى منطلقات جديدة يتفادون فيها المنعطفات الخطرة كالتي مروا بها. الحياة لا تتوقف، ليأخذ أصحاب الشكوك والعيون في مؤخرة الرؤوس تأملات ونظرات طويلة إلى الخلف. وقد آمن بها أصحاب النظر إلى الأمام، وصنعوا منها أداة تفاؤل وسعادة لمجتمعاتهم. وهذا الأمر هو ربما ما يجعلهم جديرين بالحياة، حتى وإن عدهم الآخرون عابثين وفاسدين.
- الرياض