هل هناك أدب صهيوني؟ هل يمكن أن يكون للمحتلّ الذي سطا على الأرض بقوّة السّلاح، وبطش بأهلها، وأقام ولا يزال يقيم لهم المجازر تلو المجازر، شعر ورواية ومسرح مثله مثل سائر شعوب العالم؟ ثمّ هل يمكن أن ينشأ بعد ذلك كلّه إبداع ما خارج شرطه الإنساني؟
يمثّل الأدب الذي ينتجه الصهاينة جزءاً أساسيّاً من المشروع الصهيوني الذي بدأ باحتلال أرض فلسطين التّاريخية، واستمر من خلال شنّ المزيد من الحروب المدمّرة على الأمّة العربية. وقد سار هذا الأدب جنباً إلى جنب مع الآلة العسكرية الصهيونية في سرقة الوطن الفلسطيني، ولو أنّه أي هذا الأدب كان يلبس القفازات الحريرية في كلّ مرّة مقابل الحديد المجلجل الذي يفترس البشر والحجر. لقد كانت مهمّته محصورة في التّرويج للمقولة الصهيونية التي تدّعي أحقّيّة اليهود التاريخية في امتلاك فلسطين. كان على المجرم الذي سفك الدّماء واغتصب الأرض أن يقنع العالم بعدالة قضيّته من خلال القصيدة التي يكتبها والفيلم الذي ينتجه، ولذلك فقد سعى منذ البداية إلى الوصول إلى تلك الطاقات الإبداعية الكبيرة في العالم (اليهودية وغيرها) على مستوى الأفراد والجماعات من أجل أن يوظّفها لصالحه. لقد كان من الأهمية بمكان للصهيونية مثلاً أن تستقدم شاعراً معروفاً من روسيا هو (نحمان حاييم بياليك) منذ الموجات الأولى من المستعمرين الذين جاءوا إلى فلسطين. كذلك الأمر حدث مع (شموئيل يوسف عجنون) الذي تمّ استقدامه من بولندا عام 1908، ليقيم في فلسطين، ويحصل على جائزة نوبل في الآداب عام 1966 .
ليست هناك من وظيفة أخرى يمكن أن يؤدّيها أدب هؤلاء المحتلّين، ذلك أنّ هذا الأدب لا يصدر عن مناخات طبيعية، أو عن مرجعيّات حقيقية تنتمي للفنّ. ولنذهب إلى جوهر المسألة: إنّ هذا الأدب لا يتبنّى قضيّة الإنسان. على العكس من ذلك فهو أدب معادٍ لهذه القضيّة، لأنّه في الأساس نتاج مجتمع من الغزاة والمجرمين.
من الكتب اللافتة التي ظهرت مؤخّراً في الكيان الصهيوني، والتي حاولت أن تقارب هذه المسألة كتاب بعنوان (الإرخاء بغرض الملامسة)، لمؤلّفه (دان ميرون)، وهو ناقد وباحث متخصّص في الأدب (الإسرائيلي)، والأدب المكتوب بالييدشية (لغة وسط وشرق أوروبا في القرن التّاسع عشر). يتحدّث الباحث في هذا الكتاب عن غياب النّسق الجامع للأدب الصهيوني. فهذا الأدب كما يرى ميرون هو في حقيقته مجموعة متعدّدة من الآداب التي لا يجمعها رابط تاريخي واضح أو متسلسل. والسّبب في ذلك يعود إلى كون هذا الأدب ينتمي في الأساس إلى الشعوب التي وفد منها المهاجرون الصهاينة. لقد شكّل غياب الوطن الطبيعي عاملاً حاسماً في تكسّر فكرة الأدب الواحد، وظهور مجموعات هجينة من الآداب المختلفة والمتنافسة فيما بينها. يقول ميرون: « لم يمكّنّا الوضع التّاريخي من خلق قوّة اجتماعية وسياسية يهودية شاملة، أو حتى يهوديّة محليّة مستقرّة، ولذا لم يتواجد في الواقع اليهودي الحديث مفهوم أحادي المعنى للأدب القومي، وإنّما تواجدت فيه آداب قومية تنافس بعضها البعض «.
في هذه المقاربة نجد أنّ الباحث قد وضع يده على الجزء الأوّلي من هذه الظاهرة التي تكتنف الأدب الصهيوني، ولكنّه لم يغص في أعماقها، ويحلل أسبابها الحقيقية، وبالتالي لم يذهب باتّجاه نقدها نقداً علميّاً. ليست هناك من مشكلة في أن يغيّر الكاتب مكان إقامته، ويذهب ليعيش في أي مكان في العالم يختاره وينشر فيه أعماله. هذا ما حدث مع جماعات كثيرة من الكتّاب من أمريكا اللاتينية وأفريقيا وآسيا تركت أوطانها الأصلية وذهبت لتقيم في باريس أو لندن أو مدريد، فالكتابة لا تعترف بالحدود السياسية ولا بالعرقيّات، بقدر ما تؤكّد بقوّة على وحدة المصير الإنساني. هجرات كثيرة تمّت في هذا المجال، ولكنّها لم تأت في سياق مشروع استعماري كما هو الحال في فلسطين المحتلّة، حيث جاء الكتّاب اليهود من مناطق متعدّدة في العالم لا ليحلّوا كضيوف على البلاد الجديدة، وإنّما ليشاركوا في اغتصابها من خلال النصوص العنصرية التي يكتبونها.
ليست هناك من دولة اسمها (إسرائيل)، هناك عصابات من المجرمين والقتلة. هناك مجتمع كامل من المهووسين والمرضى. من هذا المنظور ينبغي الالتفات إلى الكيان الصهيوني بكليّته، قبل الاشتغال على الجزئيات. بناءً على ما تقدّم يمكن لنا دراسة الأدب الصهيوني ومعاينته من الدّاخل. الصورة الرئيسة التي تتكرّر في النصوص الشعرية والروائية الصهيونية هي صورة الكاتب الجندي أو صورة الكاتب الجنرال، المتوجّه باستمرار إلى ساحة القتال، وهذا ما عبّر عنه بدقّة الشاعر (يهودا عميخاي) حين قال ذات مرّة: « الشعراء مثل كتيبة المشاة، الجنود الرّاجلون في أيّ جيش. إنّهم في الخارج هناك خلال الحرب، كلّهم مع أنفسهم، بالإضافة إلى حفنة من الآخرين. أمّا الروائيون فإنّهم أكثر شبهاً بالجنرالات الذين يجلسون في المخابئ يخطّطون لعمليّات كبيرة ولا يشاركون فعلاً. وبالطّبع فإنّ الأكاديميين الأدبيين أشبه بالمؤرّخين الحربيين الذين يكتبون عن الحروب الماضية، لأنّهم بهذه الطّريقة ليس ثمّة من خوف عليهم جرّاء إصابتهم بالرّصاص «.
أحياناً يتمّ الخروج على الصورة السائدة التي تحدّثنا عنها، وذلك عبر بعض الأعمال التي تنتقد أجواء الإجرام والمجازر التي تقوم بها عصابات الكيان. شاهدنا ذلك من خلال رواية (خربة خزعة) ليزهار سلامنسكي، ومن خلال الفيلم الذي تناول الرواية، كما شاهدنا ذلك من خلال الريبورتاج الذي أعدّه ديفيد غروسمان بعنوان (الزمن الأصفر)، والذي يرصد فيه وقائع الجحيم اليومية في مخيّمات الضّفّة الغربية بسبب الاحتلال. غير أنّ هذا الخروج الذي نلاحظه سرعان ما يتبدّد، وذلك حين تفاجئ الأحداث هذا النوع من الكتّاب كما حصل مع غروسمان نفسه الذي قُتِلَ ابنه في حرب لبنان الأخيرة، فانسرب داخل قوقعته، وضمّ عليه جلده الصّهيوني.