Saturday 30/11/2013 Issue 419 السبت 26 ,محرم 1435 العدد
30/11/2013

الفتنة الرمادية (2)

عند تحليل أي «مُنتَج اتصالي» فأول معيار تضعه هو «القيمة» أو الفائدة المكتسبة، وكلما ارتبطت الفائدة المكتسبة «بهدف المُنتَج» وصلت إلى «صفة القيمة»، وهي صفة -بلا شك- لا تكتمل إلا بمراعاة طبيعة المفهوم وطبيعة الدليل الممثل له وطبيعة الرابط المشترك بين فواعل الإنتاج. ووفق التراكمية السابقة نستنتج ما معناه أن القيمة هي إحدى شروط تحقق «الكفاية خطابية»، أو أي كفاية مرتبطة بالإنتاج المشترك. وقبل الدخول في إشكالية ضبط القيمة علينا أن نتوقف عند «ماهية القيمة».

يُمكن اعتبار القيمة على المستوى الوظيفي «تمثيل لأثر استجابة الوعي الجمعي لمفهوم خاص». وهذا المستوى الوظيفي يُدخلها ضمن «فئة الفواعل»؛ لأنها تُعين على تحقيق استجابة وليس تكوين استجابة. وبذلك نستطيع أن نقول في ماهية القيمة إنها «الفاعل الإيجابي المعين على تحقيق مكتسب أصل المفهوم» أو «الفاعل الإيجابي الداعم لإظهار مكتسب أصل المفهوم».

ويمكن تقسيم المفاهيم إلى ثلاث مراتب؛ المفاهيم الدالة على المعرفة والمفاهيم الدالة على القيم والمفاهيم الدالة على المهارات. قد يقول قارئ أنت تتحدثين عن القيمة وتحللين المفهوم، وهذا صحيح لأن القيمة هي حاصل المفهوم، وأي اضطراب في المفهوم يؤدي إلى اضطراب في تحديد «صفة القيمة» وضبط تقديرها، كما أن كل مفهوم يُؤسس وفق قيمة تحقق تأثيره الاجتماعي، ولذلك لا يُمكن أن أتحدث عن القيمة إلا بمعية المفهوم.

وقد يستفسر البعض أليس كل مفهوم يحمل ذات القيمة؟ باعتبار أن «صفة القيمة» لا تتحقق إلا من خلال اتفاق مشترك بين المفاهيم، لأن الاتفاق المشترك هو الذي يحافظ على «دعم الثبات» المُحقِق «لصفة القيمة». إن الغاية من المفاهيم ليست مشتركة أو هكذا أعتقد؛ فغالباً ما تنشأ المفاهيم بالتتابع؛ فلكل مفهوم زمانه وأهدافه التي تناسب الحقبة التاريخية والاجتماعية التي ظهر فيها، ثم يظهر مفهوم جديد يُناسب الحقبة التاريخية والاجتماعية الخاصة به، وقد ينقض المفهوم الجديد المفهوم القديم، ووفق ذلك لا يُمكن الإقرار بأن المفاهيم عامل دعم لوحدة القيمة المستدامة وثباتها. فالعلمانية ظهرت قبل الليبرالية، وعندما نتتبع القيمة التي تدعمها العلمانية سنجدها تختلف عن القيمة التي تدعمها الليبرالية، مع أن هناك من يرى أن العلمانية هي جزء من الليبرالية.

أضف إلى ذلك أمراً آخر هو ارتباط المفهوم بمعتقد الجماعة، وهو ارتباط يُقسم وحدة القيمة وثباتها؛ فالقيمة التي تدعمها «الليبرالية» في المجتمعات اللادينية تختلف عن القيمة التي تدعمها «الليبرالية «في المجتمعات الدينية. ولذلك لا يمكن التأكيد على حتمية «الإطلاق» لوحدة وثبات «صفة القيمة».

تُستمد القيمة أهميتها من كونها «عامل من عوامل التنمية البشرية»، وهي «فاعل من فواعل المحافظة على أصالة هوية الجماعة»، وهي «مُحِرض من محرضات الترقي النهضوي»، كما أنها «دافع من دوافع التغيير والتعديل»، وهي أيضاً من «مقنِعات القبول والاستجابة لتنفيذ إجرائية مفهوم ما».

ومصادر أهمية القيمة هي التي تُنتج أزمتها مع الوعي الاجتماعي ومتطلبات النهضة. لأنها تُحمّل القيمة مسئولية صناعة الوعي، في حين يجب أن تظل القيمة مُعززة للوعي لا صانعة له. كما أننا نُحمّل القيمة مسئولية تشكيل المنظومة الأخلاقية، في حين أن المعيار الأخلاقي يُمكن اعتباره «مكسباً إضافياً» لأصل القيمة والمكسب الإضافي هنا هو فرض كفاية في ضبط «صفة القيمة» لا من أصل ضبط «صفة القيمة». وبذلك فليس من الضرورة أن تكون القيمة داعمة للمنظومة الأخلاقية، كما أنها ليست مفرد القيم لا تُكون القيم أو تُمثلها كما هو الشائع المتعارف؛ فالقيم تدخل في باب «الثابت بالاكتساب» وتتصف بغالبية الاتفاق ولا تتغير بتغير المفهوم، لأنها تُمثل مفهوماً في ذاتها، وقد تُنتج بدورها قيمة إضافية لها أو موازنة لها، عكس القيمة التي هي حاصل مفهوم متغير ولا يمكن أن تكون مفهوماً في ذاتها.

ما أقصده أن القيمة لا تُلزم بمعيار أخلاقي أو لا يشترط لتحققها دعمها للمنظومة الأخلاقية؛ وإن كان مفهوم الأخلاق هو مفهوم متحرك وجداني لا ثابت مضبوط بآلية عقلانية؛ لأن محتوى القيمة يُؤسس وفق معتقد الجماعة، وليس محتوى موضوعية أصل المفهوم هو المؤِسس لمعتقد الجماعة. وبالتالي فتقدير «أصل القيمة» يُوثّق وفق عقيدة الجماعة.

وهو ما يعني أن «القيمة» تخضع لتعدد المضامين وقد تصل حدّة تلك التعددية إلى التقاطع بينها وهو ما أسميها «الفتنة الرمادية» للقيمة. وهو تعدد أو تقاطع حاصل دلالة المفهوم ونوعه ومستواه وتقديره من معتقد الجماعة، وبذلك فما قد يُعد «صفة قيمة» عند جماعة، قد لا يُعد «صفة قيمة» عند جماعة أخرى. مثل الحرية الدينية»، إن «قيمة هذا المفهوم» يعتمد على حق المرء في الاختيار في المجتمعات اللادينية، أما المجتمعات الدينية فإن ممارسة «حق الحرية الدينية» تنعدم فيه أي «قيمة» بل ممارسته توجب ما هو ضد القيمة «العقاب» «عقاب الحدّ»، ومتى ما ارتبطت صفة بقانون عقاب خرجت من إطار القيمة إلى إطار «اللاقيمة».

واللاقيمة يكمن في أن حاصل الاستجابة لمفهوم ما هو جالب للإفساد والضرر والخيانة والكفر والتخلف. والكفاية الخطابية قد تراعي ذلك كلما كانت من نتاج خاص، ولا تراعي تلك الخصوصية كلما ارتفعت لتُصبح نتاجاً عاماً، وتلك المراعاة ليست دوماً في مصلحة الجماعة فقد تجرّ للجماعة مفّسدة الرجعية والإقصاء والتطرف.

وقد يرى آخر أن هناك مبالغة في «تعددية جذر صفة القيمة»؛ لأن القيمة «عالمية»، وهي لا تكتسب «صفة العالمية» إلا من خلال «شرعية الاتفاق الجمعي الكلي» إضافة إلى «النوعي». وهو رأي لا أختلف معه في المبدأ العام لكن الاختلاف هنا يكمن في «التفاصيل». فالمساواة مثلاً هي «قيمة مشتركة بين الجماعات» لكن متى ما «شُرطت» عند جماعة فقدت «عالميتها»، والاشتراط هنا مرجعه لطبيعة محتوى المفهوم، ففي المجتمعات اللادينية مفهوم المساواة أكثر انفتاحاً من المجتمعات الدينية، والأمر كذلك بالنسبة لـ»الحرية»ولذلك تتحفظ بعض الدول على المصادقة على بنود بعينها في وثائق حقوق الإنسان، والتحفظ هنا مرجعه طبيعة المفهوم المرتبط بالقيمة الحقوقية.

وبذلك تتفاوت مستويات أصل القيمة عند الجماعات بتفاوت محتوى دلالات المفهوم المرتبط بمعتقدهم، وهذا الأمر غالباً هو الذي يُنتج «أزمة حقوق الإنسان» في المجتمعات. وهذه الإشكالية - حسبما أعتقد - هي التي تطرح أمامنا السؤال الآتي: ما وحدة قياس «قيمة الكفاية الخطابية»، القيمة التابعة للمفهوم الجمعي أم التابعة للمفهوم العالمي؟

والخلاف حول إجابة السؤال هو الذي يؤدي إلى «اضطراب الكفاية الخطابية» لمواقع التواصل الاجتماعي لأنه يُشجع على الفتنة الرمادية.

- جدة