* «المعرفة ضحلة حين لا تتعلق بالمفاهيم العميقة أو الأفكار الجوهرية. ويمكن أن تنشأ تلك السطحية من محاولات تغطية كمياتٍ كبيرةٍ من المعلومات المجزأة ينتج عنها محتوًى غير متصل الأفكار أو المفاهيم المركزية!» *
* منيت الحركة الثقافية العربية –عامةً-في أجيالها المتأخرة بانتكاساتٍ عديدةٍ، وتراجعاتٍ متتالية، آلت بها إلى أن تخفض شراعها في وجه الرياح الثقافية العاصفة القادمة من جهات العالم الآخر. ولتلك الانتكاسات انعكاسات، وآثارٌ ومؤثرات، لم تُدرَس حق الدراسة لمعالجتها وتجاوزها، وإن وجدت بعض النظرات هنا وهناك على سبيل الرؤى الفردية، التي لم يقدر لها أن تتخذ طابع المشروع النهضوي. لا يعني هذا -على كلٍ- جدارة كل واحدةٍ من تلك الرؤى بأن تقام كمشروع بذاتها، خاصةً تلك الرؤى التي يٌلمَح منها السعي خلف التفرد لا التفقد ..!
* وحين نقول: الحركة الثقافية، فنعني بها الثقافة ممثلةً ببيئتها ومؤسساتها بشقيها: الفكر والمعرفة، أيًا كان تيارها ومصدرها. وفي غنًى عن القول بارتباط الاثنين ببعضهما ارتباطًا وثيقا، حيث الفكر المنتظم «منطقيًا «مشروطٌ بمعرفةٍ مشروطة، غير ممكنة الحصر في انتماءٍ أو اتجاهٍ معين. المعرفة المحصورة غير المشروطة وغير المنتظمة تنتج فكرًا غير منتظم أو مضطرب الربط والارتباط.
• لم يأخذ الفكر العربي المعاصر بأسباب المعرفة ويلتزم شروطها ومبادئها، فكان طبيعيًا أن يرتكس ومعرفته في مأزق الانفصال الزمني والمكاني عن الحضور والحاضر، إذ وقع بين مطرقة المُلقَّن القديم وسندان المُتَلقَّى الحديث، فكانت النزعة مجالًا النزاع والصرعة محفزًا للصراع، ففي خضم الزخم الهادر والجارف للتيار الثقافي الوافد بكل مقدرته ومقدراته بدا تصور أن ذاك التيار – عند بعض الفئات-كان يمثل «قوة احتلالٍ» غاصبة، كان لا بد من أن تواجه بـ «حركة مقاومة» عنيفة، لا تقل عن تلك القوة جريًانا وإجراءات. وفي ظل سيادة مفهوم – أو موهوم! - حدية المعرفة، وُلِد الوعي حيث وئد، إذ استأثر كلا الطرفين بالزعم بأنه وحده المنطوي على المعرفة الحقة وأن الآخر أبعد ما يكون عنها، فهو العالم العلوي وكل ما خلافه دونه وأسفل منه، لا ينظر إليه ولا يحفل به، فالحقيقة ليست معياره الجدلي بل هو معيار الحقيقة الذي لا يقبل الجدل! وبين عين الرضا وعين الغضب تاهت العين الفاحصة وفقدت قدرتها على الإبصار مع سقوط قيم «الحق والخير والجمال» في أدبيات الصراع الدائر بين التيارين ومحاولات كليهما «تعميم» معرفته و»تجريد» الآخر» من «معرفته!». وكم كان غريبًا كل الغرابة وشاذًّا غاية الشذوذ أن تعاني المعرفة من الانقطاع المعرفي عن المعرفة! بسبب تحرفها تارةً عن الأصالة والتأصيل وتارة عن الحداثة والتأويل!
* ولأن الأطراف المتصارعة اتخذت من انتمائها للحقيقة شعارًا، و»عدت إحقاق الحق واقتنائه من الأجناس القاصية عنها، أو الأمم المباينة لها عارًا!»* غض أنصار الحديث أعينهم-قصدًا أو سهوًا – عن إشكالية المعرفة الغربية عامةً والإنسانية خاصة، المتمثلة في الإيمان العميق بإمكانية تقنين كل ما يقع تحت النظر، وإخضاع الظواهر الإنسانية لقوانين العلم التجريبي، حيث النهج الرياضي هو «أنموذج اليقين» وفقًا لهذا المذهب. وهو ما لا يتفق وطبيعة الإنسان باعتبار الظاهرة الإنسانية عينةً عشوائيةً مفرغةً من صرامة المسار المنطقي ولا يمكن تعميمها عليها مطلقا. وهذا تناقض في أساس المنهج الذي من مبادئه إثبات قطعية الاستحالة بتعميم الفرضيات والنظريات والقوانين الرياضية على مثل تلك الظواهر، إنما يمكن دراستها مقطعيًا أو جزئيًا في مكانٍ وزمانٍ معينين دون القطع بتعميم النتائج حتى على كل محتويات الشريحة المخضعة للدراسة نفسها. فهي أقرب ما تكون لتطبيق منهج استقراء دون تتبع، وسبرٍ وتقسيمٍ مخصوصٍ غير معمم.
* في المقابل، كانت الإشكالية المعرفية العربية الواضحة -وما تزال -تكمن في التتبع بلا استقراء، والتلقي على علاته دون تعليله، فالتعليم أصله التسليم! والنقل – في أعمه الأغلب -للنقل .. لا للعقل! ولا يختص هذا الحكم بالقضايا المعرفية الحديثة بل يمتد إلى المعرفة التراثية مع شيوع تصور مغلوط حول تحقق هذه «النقلية غير النقدية» كأصل في النظر عند السابقين، ومن ثم توجَّب اتباعه كمذهب في التسليم بالحقيقة لا يصح الحياد عنه، وبالتالي، فإن المعرفة جلها – إن لم يكن كلها-متحققةٌ في ذلك التسليم الذي لا تجوز مجاوزته، فالثبات عليه أصل، وإن وقع شيءٌ من مخالفته الواقع والوقائع ومناقضته الزمان والمكان فلعل ذلك لا يُبليه إنما يُعليه! وما بين المذهب المعرفي الذي يقوم على: Nothing is sacred, whatever it is.
«لا شيء مقدس، أيًا كان.»
والمذهب المعاكس: Almost everything is sacred, whatever it is!
«تقريبًا كل شيء مقدس، أيًا كان!»
* ظلت المعرفة تائهة في أوار الصراع بين تيارين متضادين تمام التضاد، مفهوم المعرفة في تصور كل منهما: إسقاط الآخر أولا!
* تلاقت هذه الإشكالية والإشكالية المعرفية العربية –بصفةٍ عامةٍ -في المقابل وتلاقحتا لتنتج إشكاليةُ معرفيةٌ جديدةٌ، تمثلت في الطرفين بحالتين متناقضتين، في تطبيقات غايةٍ في السطحية للمفهومين: الفلسفة والتلقين كلٍ في مجال الآخر. فمن جهةٍ كان نقل الفلسفات العالمية لمجرد نقلها دون تحقيق أو تدقيق نوعًا من توظيف التلقين كأثر ناتج عن السلوك والإجراء المعرفي المتوارث توهم فيه تمثل فلسفة كانت في معظمها ذاتية فردية النزعة، وفي المقابل استمال سحر الفلسفة – إن صح التعبير! - وفتن بعد الاطلاع عليه ثلةً محسوبة بفاعليتها في تيار التلقين ونشأت في أحضانه ولطالما بشرت به، فكانت النتيجة هذا كله وجود «فلسفة ملقَّنة!» و»ملقِّنين فلاسفة!» بنتاجٍ هجينٍ مشوه يحمل ملامح من هذا وتلك! كما عمق من آثار المشكلة -على كل حال-وجود جمهور متعطش للتحيز والتحرف والتعرف بالتطرف! جاهز للمباركة والمشاركة في إذكاء كل هذه الوقائع من الصراع والضياع كممارسةٍ طبيعية لهذا الجمهور الذي نشأ وترعرع في تلك الأجواء المشحونة، وربما كان فرس الرهان في حقيقة الجاري من الصراع على أدوار البطولة –أمام الكواليس! – ومشاحنات الانتفاخ والانتفاع وأنساق ما انساق خلف «أوهام المسرح» ..!
* من الطبيعي أن تغيب المعرفة العربية المعاصرة عن الذكر والذاكرة ومسرح الحضور، فبين انصهارها في جزءٍ كبيرٍ منها في ذاكرة القديم، وانصهار جزءٍ مساوٍ له في المنقول الحديث، وجزء ثالث ينتمي للطرفين معًا! لم يتبق لها إلا شتات جهود من «أقليات وعي!» بفلسفات حقة لقنت وتلقت المعرفة جيدًا ولكن لا يمكنها مهما بلغت أن تعيد وجود المعرفة العربية إلى المسرح والذاكرة المفقودة في المحصلة النهائية .. ما لم تكن ثورة على السائد من القيم الفكرية السطحية الممارسة سلوكًا ووعيًا ومعرفةً، دون تَنَكٌّب الأصول الصحيحة التي قامت عليها دعائم تلك المعرفة وتغذيتها المستمرة بالمناسب الحديث بما يحقق استعادتها كيانها وكينونتها وحضورها بهويتها الخاصة!
• حجم الذاكرة في دماغ الإنسان يساوي تمامًا حجمها في باقي المخلوقات الثديية .. أما الجزء الأكبر في ذلك الجهاز – في الإنسان مقارنةً بكل المخلوقات! - فهو جزء التفكير .. أو «المخ»! وهو الحيز الذي تملؤه عضلات التفكير «الطوعية» ..! والحقيقة العلمية أنه رغم ذلك فإن ممارسة التفكير لا تستغني عن الذاكرة التي تحاكم الظواهر والمعطيات من خلالها!
• رفض المعرفة لمجرد الجهة جهالة ..!
• الوعي انتماءٌ في حد ذاته ..!
• الفلسفة الملهمة مهمة .. الفلسفة المبهمة ملهاة!
• الحقيقة حرة ..!
• المعرفة ليست بخير!
• وصف المعرفة الضحلة في مؤسسات النوعية الفكرية، من كتاب «إعادة صياغة المفاهيم الرياضية»، جون ستار.
• من عبارةٍ لأبي يوسف يعقوب بن إسحاق، المتفلسف الكندي (بتصرف).