تطير الكلماتُ وتتكوّر ثم تصير بجعًا بانتظار القمصانِ التي نامت على طاولةِ الخياطةِ، إلى جانبِ المقصّ الذي يسوّل له أصبعاه الحادّان بفكّ كل الخيوط، والعودة إلى نقطة الغرزِة الأولى. هكذا هي بعض الأحاديث، نتكلّم ونحمل في نفوسنا عقدةَ المقصِ الذي يبدو أنه معجبٌ كثيرًا بما فعلتْه «بينلوبي» زوجةُ أوديسيوس في انتظارِ عودةِ زوجها، ولكن ما الذي ننتظر عودته نحن سوى الصفر؟
* تبدأ الأحاديثُ أحيانًا مثل كرِة الصوفِ، متسقةً ومنتظمةً، وقد تبدو أحيانًا كرًة أو كراتٍ عبث بها هرٌ مارقٌ فتتشابك وتتعقد، غير أنّ ذلك لا يعني أنّها غيرُ صالحة بالضرورة، لكنّها تحتاجُ إلى أصابعَ خبيرةٍ تعرف كيف تحلّلها لتحيكها وتعيد إليها الانضباطَ الذي تحتاجُه الغرزُ بحزمٍ، دون اللجوءِ إلى تخويفها بشبح «المقص» !
* قد لا تكونُ الأصابع الخبيرة بريئة دومًا، فتلك التي تغزل خيوطَ المؤامرة لا يمكنها أن تحيك ثوبًا يسربل المرءَ بالدفء أوحتى قلنسوةً تدرأ عنه لسعاتِ البردِ المحتمل، وهذا يعني أن الحائكين الماهرين اللذين لم يُخلق مثلهما في البلاد خدعا الملك ولم يمنحاه إلا رداءً كشف سوءته و لم يخصفْ عليه إلا لباسَ الحمق، ومنحتهما الخيوطُ الوهمية ثروةً مؤقتةً زالت عند أولِ منحدرٍ زلقتْ فيه أقدامهما، ولم يكنْ لهما خيطٌ يتعلقّان به، ولاتِ حينَ مناص.
* وربما كانت خيوطُ العنكبوتِ «حريريةً» لكنها تبدو في قوتها ومتانتها مثل خيوطِ الصوف، ويُظهر العنكبوتُ براعةً مذهلة في حياكتها لاصطياد فريسته، وإن لزم الأمر حوّل الخيوطَ إلى شرنقة! ليس هذا خارجًا عن سياق «الأحاديث» التي قد تصير لزجةً تعيق التقدم ولا تسمح بالعودةِ إلى الوراء، وليس المنتصفُ دومًا أمرًا مقبولًا ! ويصبح الخلاصُ الوحيد في «هدم/ نقض» «بيت العنكبوت/ الصوف»، وعندها لا مفرّ لنا من الصفرِ مرة أخرى، وفي الصفر حياة!
«عندما أسحب خيوطَ الذاكرة
يتحول الشوقُ إلى كرة صوف
وعنما أنسل خيوطَ الذاكرة
يصبح الأملُ ككرةِ الصوفِ
وهكذا يبقى الخيطُ
نفسه دائمًا..»
ماريو بنديتي