المكتباتُ بشقّيها العامّ والخاصّ رافِدٌ مهمٌّ من روافدِ الثّقافةِ، ومُنْطلقٌ لتنميةِ المعْرفةِ، ومُرْتَكزٌ لتطْويرِ وبناءِ قُدُراتِ الإنسانِ الذّاتيّة، ومَرْجِعٌ للباحثين، ومَنْهَلٌ للدّارسين.
وكانت المكتباتُ قبْلَ وأثناءَ نُشوءِ المملكةِ العربيّةِ السّعوديّةِ مكتباتٍ خاصّةً في منازلِ بعض الأمراءِ والعلماءِ وبعضِ المُثَقّفين، وأغلبُ مُقْتنياتها يختصُّ بعلومِ القرآنِ الكريمِ وتفْسيرِهِ وقِراءاتِهِ وأحْكامِهِ، والفِقْه والفرائضِ، والأحاديثِ النّبويّةِ الشّريفةِ، وغَزواتِ الرّسولِ صلَّى الله عليهِ وسَلّمْ، والفُتوحاتِ الإسْلاميّةِ، والُّلغةِ العربيّةِ ودقائِقِها وآدابِها، والعُلومِ الإنْسانِيّةِ.
وكانتْ بُيوتُ مُعْظمِ عُلماءِ نَجْدٍ والأحْساء لا تخْلو من مكتباتٍ خاصّةٍ للتّثَبُّتِ من الأحْكامِ ، ولإشْباعِ مُحِبِّي الثّقافةِ والمعْرِفَةِ. أما في الحجازِ فقد عَرفَتْ مكةُ المكرّمةُ المكتباتِ خاصّةً وعامّةً، فأُنْشِئتْ في بلدِ اللهِ الحرامِ أوّلُ مكتبةٍ عامّةٍ في القرْنِ الخامسِ الهِجْريِّ ، وفي عام 641 ه أنشئت مكتبةٌ بمدرسة شرف الدين مجاورةٌ لِبابِ السّلامِ ، وتوالى إنْشاءُ المكتباتِ العامّةِ التي أصْبحَتْ نواةً لمكتبةِ الحرمِ المكّيِّ الشّريف. وفي المدينةِ المنوّرةِ كانتْ أشْهرَ مكتباتِها مكتبةُ عارِفْ حِكْمتْ التي أُنْشِئَتْ عام 1270 هجريّة.
والجديرُ بالذّكرِ أنّ أغلبَ المكتباتِ الخاصّةِ كانت مُيَسَّرةً لطلاّبِ العلم.
مكتبةُ المعارفِ بالطائفِ:
مكتبةُ المعارفِ بالطائف للشيخِ الفقيهِ المربِّي الفاضِلِ المُؤرّخِ الأديبِ الشيخِ محمد سعيد بن حسن كمال أُسِّسَتْ هذه المكتبةُ الشّهيرةُ بالطّائفِ في الستّيناتِ الهجريةِ من القرنِ الماضي، وهي إحْدَى المكتباتِ الكبيرةِ والشّهيرةِ على مُسْتوَى المملكةِ العربيّةِ السّعوديّةِ، وتُعْتَبَرُ مع شقيقتِها (مكتبة السيّد المُؤَيَّدْ) من أهمّ وأغْنَى مكتباتِ المصادرِ والذّخائِرِ والمراجِع، وكان شُداةُ المَعْرِفةِ الذين يأتون من خارجِ الطّائفِ يحرِصونَ على زيارةِ هاتين المكتبتينِ، بلْ وتِكْرارِ الزّيارةِ، للاطّلاعِ على ما بها من كنوزِ المعرفةِ وذخائرِ العلم. وقد جمع الشّيخُ محمد سعيد بن حسن كمال رحمه الله في مكتبتِهِ (مكتبةِ المعارفِ بالطّائفِ) نوادرَ الكتبِ والمخْطوطاتِ، ونفائِسَ المُصَنَّفاتِ من كتبِ التُّراثِ ودقائِقِ الّلغةِ العربيّةِ، وعلومِ القرآنِ الكريمِ وأحكامِهِ وتفسيرِهِ، والعُلومِ الإنْسانِيّةِ والرّحْلاتِ، وكانتْ مجموعاتُ الصُّحفِ القديمةِ مثلِ الهلالِ والمُقْتَطَفِ والرّسالةِ والعربيِّ والمنهلِ وغيرِها من الصحف والمجلاّتِ الشّهيرةِ تحتَلُّ موقِعاً بارزاً من المكتبةِ، واهتمّ صاحبُها رحمه الله بتزويدِ المكتبةِ بكلِّ ما يصدر من الكتبِ المُحقّقةِ الجيّدةِ التي صرف لها همّتَه وعزمَه، طالما صَرّفْتُ فيها هِمَّتي طولَ دهْري مولَعاً والشّيبُ لَمْ ولم يقتصِرْ دورُ مكتبةِ المعارفِ في الطائفِ على بيعِ الكتبِ، بل كانتْ مُنْتدىً علميًّا وثقافيًّا، يجتمعُ فيها كثيرٌ من العلماءِ والأدباءِ وطلبةِ العلمِ وراغبي المعرفةِ من بعدِ صلاةِ العصْر يوميًّا حتى أذانِ العِشاءِ في نقاشٍ علميٍّ وتحاورٍ، فإن اختلفوا في شيءٍ فالمراجعُ في المكتبة قريبة، ولا ينتهي سامرُهمْ إلاّ بفائدة، وللشيخِ محمد سعيد كمال مكتبةٌ خاصّة في منزلهِ بقروَى، بها من المخطوطاتِ والنفائسِ الكثيرُ، وكان يدعو لها من زائريه من يجد لديهم رغبةً أكثرَ للاطلاع.
يقول الأستاذُ الدكتور محمد مريسي الحارثي مُتحدّثاً عن الشيخِ محمد سعيد كمال رحمه الله: «كان منزلُهُ ومكتبتُه (مكتبةُ المعارفِ بالطائفِ) مجْمعَ العلماءِ وطلاّبِ العلمِ، ومجْمعَ إخوانِهِ الذين كانوا معه على ودٍّ صادقٍ وإخاءٍ وثيق، وكانوا جميعاً على درجةٍ كبيرةٍ من العلم، لم يجمعْهم مجلسٌ إلاّ أداروا المُناقشةَ فيما يُفيد، فهمْ ينْتمونَ إلى دوحةِ العلم ، ومكتبتُه أي مكتبةُ المعارفِ بالطائفِ مكتبةُ عالِمٍ وأديبٍ وفقيهٍ ومؤرِّخ، جمع بها من المصادر ونوادرها ما يدلُّ على معرفةِ صاحبِها وسِعة علمِه واطّلاعِه».
انتهى كلامه.
إن هذه الذاتيّةَ العظيمةَ للجيلِ الذي سبق جيلي، رغم ضيقِ ذاتِ اليدِ، وصعوبةِ الحصولِ على الثقافةِ والمعرفةِ في عهدهم، إلا أنّ هذه الذاتيةَ كانت دافعَهم للتزوّدِ بالعلمِ والمعرفة، ونهلِ الثقافةِ من معينِها، فقسروا أنفسَهم على تربيةِ الذاتِ، والرُّقيِّ علماً ومعرفةً وإدراكاً، فإنْ جالستَ أحدَهم جالستَ عالماً وفقيهاً ومؤرّخاً وأديبا، جيلٌ لم تقوقعْه التخصصاتُ، ولم ترهقْه التقنيةُ الحديثةُ التي أرهقَتْ نشءَ اليوم.
ورغم أنّ مكتبةَ المعارفِ بالطّائفِ مكتبةٌ تجاريّةٌ إلاّ أنّ صاحبَها رحمه الله جعل منها قاعةَ اطّلاعٍ لروّادِ وراغبي المعرفةِ من طلبةِ العلمِ، ليُتاحَ لهم التزوّدُ فيما يتطلّعون إليه من ثقافةٍ ومعرفةٍ، والوصولُ إلى المراجعِ المتعدّدةِ ومظانِّ البحث، وكان رحمه الله يأنسُ إذا وجد طالبُ المعرفةِ بُغْيتَه لديه، فيجلسُ معه، فإنْ وجد عنده جديّةَ الرغبةِ في العلمِ أرشده إلى الذّخائرِ والمراجعِ والمصادرِ. وانتهج رحمه الله نهْجاً في تيسيرِ المعرفةِ لراغبيها، ببيعِ الكتبِ لهم فإذا نهلوا منها اسْتردّها منهم بقيمةٍ أقلّ، إدراكاً منه رحمه الله بضيقِ حالِ كثيرٍ من طلاّبِ المعرفةِ، وبذلك يُشجّعُهم على متابعةِ الاطّلاعِ.
ومما يجده طالبُ العلمِ في مكتبةِ المعارفِ بالطائفِ من الكتبِ على سبيلِ المثالِ:
• متنُ عمدةِ الأحكام لابنِ دقيق
•متنُ عمدةِ الفقهِ للمقدسيّ
• شفاءُ العليلِ في مسائلِ القضاءِ والقدرِ لابن القيّم
• تهذيبُ مجْمعِ الأمثالِ للميداني
• استشهادُ الحسينِ للحافظِ ابنِ كثير
• رأسُ الحسينِ لشيخِ الإسلامِ ابنِ تيمية
• إيقاظُ هِممِ أولي الأبصارِ في الاقتداءِ بسيّدِ المهاجرين والأنصارِ للشيخِ صالح الفُلّانيّ
• لوغُ المرامِ لابنِ حجر
• رسائلُ في المصاحفِ وأصولِ التّفسيرِ، وفي الحديثِ، وفي التّوحيدِ، وفي الاجتهادِ والتّقليدِ، وفي دقائقِ اللغةِ العربيةِ، وفي المُناظراتِ بين الفحولِ من علماءِ الإسلامِ وأعلامِه
• كتبُ الرّحلاتِ
• الأزهارُ الناديةُ في أشعارِ الباديةِ، التي تُعدُّ أكبرَ وأهمَّ مرجعٍ للشّعرِ العامِّيِّ، باعتباره مصدراً من مصادرِ التأريخِ.
• مجموعةُ الرسائلِ الكماليةِ، وهي موسوعة تراثية، تشتملُ كلُّ مجموعةٍ على علمٍ من العلومِ، ولكلِّ مجموعةٍ من هذه العلومِ مُقدّمةٌ إضافيّةٌ، بها نبذةٌ من حياةِ المؤلِّفِ وما يتصلُ بعلمِه، فضلاً عن الحواشي والتعليقاتِ وقد رصد الأستاذُ الدكتور سليمانُ صالح كمال مشكوراً مؤلَّفاتِ الشيخِ محمد سعيد كمال ومحتوياتِ مكتبتِه في كتابِه (التعليمُ في الطائفِ وبعضُ رجالِه في القرنِ الرابعَ عشرَ الهجريِّ). وكأنّي بالفقيهِ الأديبِ المُؤرّخِ الشّيخِ محمد سعيد كمال يطلُّ علينا مُتمثِّلاً بقولِ الشّاعِر:
آثارُنا لِلباحِثينَ منارُ
سِيَرٌ يفوحُ أريجُها المِعْطارُ
تَرْوي لنا سِيَرَ الفُتوحِ وإنّما
تَمْضي الحَياةُ وتَخْلُدُ الآثارُ
آثارُنا أغْلَى هِباتِ حياتِنا
زُرْها فآثارُ الحياةِ تُزارُ
لا تعْجَبي إمّا رأيْتِ معالِماً
كَبُرَتْ، فآثارُ الكِبارِ كِبار
نعمْ آثارُ الكِبارِ كِبارٌ
** ** **
_ مختصر ورقة ألقيت في جامعة أم القرى