كان قدره أن يتصدى لأكبر (الملفات) في أعقد (الظروف)، وأن يقفَ وحده في مواجهة آمالنا الممتدّة، وثغورنا المتعدِّدة، وإمكانياتنا المحدودة في (العشر العجاف).. فاستقام لقدره المبارك ومضى كالرياح : الصوت هو الصوت، والملامح هي الملامح...!
كانت (وزارة المعارف) قبله بحاجة إلى مغامر، إلى رجل يبادر ولا ينتظر، يعرض ويفرض ويكسر ويصرخ... كانت بحاجة إلى قوي بشموخ مئذنة طويلة.. إلى مقدام لا يخرج من صولة إلا ليدخل صولة..؛ لذلك كان رجل المرحلة بحقّ، وفعل ما ينبغي أن يُفعل وقتها..، فانتفضت وزارته وزال عنها القبرُ والكفنُ، وأخذت تركض في مضمار جديد، تطرح الأسئلة وتتلقاها، وتبتكر الحلول وتتحمّل تبعاتها، وما فتئت تصنع في ساحتنا جدلا مثيراً حول مفاهيم تربوية أكثر منها إدارية، ولكثير منها علاقة وثيقة بحاضر هذا الوطن ومستقبله!
اختلف الكثيرون في تقويم منجزه، لكنهم أقروا له بالكثير، بكسر الرتابة ومدّ الصوت والصورة، وبمغامراته المتتالية في الفجاج التي لم تكن من قبل مطروقة، وقد عاد من بعضها متوّجاً بعزة (النصر)، ومن بعضها الآخر بقدسية السبق و(الشهادة)، ولا تسألوا عن عنفوان (العزيمة) بعد (الهزيمة)!
-2-
في رصيده ستون عاماً من العلاقة بالتربية والتعليم، قضاها طالباً، فمعلماً، فأستاذا جامعياً، فمديرا لمكتب التربية العربي، فعضواً في مجلس الشورى، فوزيراً، وبعد خروجه من الوزارة كتب سيرته، وعلّق بحرية تامة على كثير من القضايا المعلّقة في مجال التربية والتعليم، ولم يتوقف عن الكتابة في هذا المجال حتى مالت يده اليمنى، ووسِّد في السماء دفينا !
حمل على ظهره آمالاً كثيرة، فاصطدم بعقبات إدارية لاحد لها، وبعقول مغلقة وقلوب قاسية، وبواقع صاقع يمنح مرة ويمنع مرات، وحين أعفي من منصبه خرج بالثقة التي دخل بها، وقال مودّعا: «لم أفعل لكم كلَّ ما أريد، لكنني لم أندم على شيء فعلته» !
لقد أضاف إلى الشق الإداري في وزارة التربية والتعليم الكثير والكثير، ولم تمكّنه عوامل كثيرة من الوصول إلى البيئة المدرسية، كضعف المخصصات المالية، والنمو المتزايد في أعداد المدارس والمعلمين، ومطاردة التمدد العمراني والنمو السكاني، وضعف بعض القيادات الإدارية..
ويعرف الكثيرون أن الوزارة قد تخلصت في عهده من المسايرة والركود، فتواصلت مع تجارب العالم كله، وعقدت المؤتمرات والملتقيات وورش العمل، وشكلت عشرات اللجان التي لم يكن لها وجود من قبل.. وأعيدت هيكلة الوزارة في عهده لتواكب متطلبات المرحلة، فاستُحدثت وكالات، وإدارات عامة، وأقسام متخصصة، ومكاتب تربوية، وأصبحت الوزارة ليلة خروجه منها مهيّأة - إلى حد ما - للنهوض بمسؤولياتها الرئيسة في خدمة التربية والتعليم وعناصرهما المعروفة.
لقد حمّله الكثيرون تبعة قرارات إدارية لم يتخذها، ولم يكن له الخيار فيها، فحمّله المعلمون تبعة تعيينهم على مستويات دون مستوياتهم المستحقة، وحمّله بعض المحتسبين مسؤولية دمج الرئاسة بالوزارة وعدّوه العقل المدبر لهذه (المؤامرة التي تستهدف أخلاق المجتمع)، وحمله آخرون مسؤولية إفساد اللسان العربي، وتذويب القيم الدينية في المقرّرات...، ورغم ذلك كلِّه ظل متمسكاً بعناده وصموده، وواجه وحده المسؤوليات والمساءلات.. وحين سألته – قبل أشهر - لمَ لمْ يكن ردّك عليهم قوياً ؟ أجاب : « لن يغير دفاعي من الأمر شيئاً «!
-3-
كان مؤمناً بأن التعليم السليم لا يتحرك إلا في سياق ثقافي سليم؛ لذلك طرح الجديد فاصطدم بالقديم، ولوّح بالمختلف فاهتاج السائد، فكانت أفكاره التي أثارت الكثير من الجدل كمنع الضرب في المدارس، وتطوير المناهج، ومواجهة التلقين، وتدريس الإنجليزية في المرحلة الابتدائية، والرياضة النسائية في مدارس البنات، ومادة الوطنية، والنشيد الوطني... وكان من حق الجميع أن يختلفوا معه، بل إنّ في اختلاف بعضهم ما يمكن أن يضيف إلى هذه الأفكار ويسهم في توجيهها.. غير أن أمة من الناس اختطفت هذا الاختلاف المشروع من سياقه؛ فشنّت عليه هجوما عنيفا.. اتهمته بالفسق وبما وراءه، وقابت قوسين أو أدنى من تكفيره..، ولم تتعفّف من ضرب ذمّته فوق المنبر قبل صلاة الجمعة.. ومارس بعضهم الكذبَ الصفيق؛ فزعموا أنه أساء إلى القرآن، وأنه أشار إليه في أحد لقاءاته بازدراء واحتقار، وصنعوا لهم دليلاً ملفّقاً من صورة قديمة وتصريح مستعار، فولدت على هامش الصورة فتاوى لا تحمل طهر الفتاوى ولا ورعها، وقال فيه بعضهم ما لو قيل في غيره لانتهى..!
أخذت المواجهة تكبر مع الأيام، ينفخ فيها من لا يُبينون ولا يتبيّنون، ولا يعزُّ عليهم أن يصيبوا قوماً بجهالة، وحين سألته – قبل أشهر -: لمَ لمْ يكن ردّك عليهم قويا ؟ أجاب: « تركتها للآخرة «!
لم يجهل هؤلاء أنه المتحمس الرئيس لفكرة «التوعية الإسلامية» في مدارسنا، وأنه المسؤول عن دعم برنامج تحفيظ القرآن، ولم تغب عنهم الأرقام التي تعبر عن دعمه الكبير الكبير لمدارس تحفيظ القرآن.. ولا يجهل هؤلاء أنه الوزير الوحيد الذي منح حفظة القرآن من المعلمين استثناء معشباً، فقرّر أن تُلبى رغباتهم في النقل بصفة خاصة، ودون أن يخضعوا لقائمة المفاضلة المعروفة.
لا يجهل هؤلاء أنه كان قريباً. . لكنهم أرادوها حرباً والحرب خدعة...!
-4-
لقد أتمّ الله عليه نعمته وعلى محبيه حين جمع له الكثير من أعمال الخير في آخر أيامه، فقد صلى وتصدق ودعا إلى الصدقة وأدى واجب الصلة، ثم رحل بهدوء، ومن يتصفح أحرفه وكلماته الأخيرة يجد فيها فسحة الأمل، وراحة الضمير، والثقة المطلقة بنصر الله، وبرحمته وفضله..! ولقد سررتُ كثيرا حين رأيت مئات الحسابات في مواقع التواصل الاجتماعي تتجه إلى عرض جمائله وخمائله، وإلى الدعاء له، وإظهار الحزن عليه..، وأرجو أن يكون هذا عاجل بشراه...
اللهم ارحم عبدك محمد الأحمد الرشيد، وأنزله منزلا مباركا وأنت خير المنزلين.