(أ)
ما العلاقة الرابطة بين عنوان الكتاب ومتنه، وما يقع في حكمه؟ ولماذا للعناوين قوّة إذا ما توفّرت فيها عوامل الجذب؟ وإلى أيّ مدى يمكن الاتفاق على الحدّ الأدنى من العوامل التي تساعد في إيجاد عنوان يحقّق الجذب ولا يحقّق النفور؟ أم أنّ المسألة توفيقٌ وليست اتّفاقاً أم منزلة بينهما؟ وما هي التأثيرات المؤثّرة في نحت العنوان بين ذاتيّة وموضوعيّة، وأخرى متعلّقة بفضاء العنونة، والقيود الرقابيّة من السلطة على تنوّع أشكالها، رسميّة أو أهليّة.
ما هو العنوان؟ هذا الذي ليس بالمتن، وليس بالهامش، هذا الذي هو فتنة الكاتب والقارئ والناشر؛ قد يبدو اسماً عند البعض تحت أوهام الترادف، لكنه ليس اسماً استناداً إلى مفهوم في اللغة يعارض الترادف الكلّي على دلالة المطابقة، وإلا سقطت اللغة فيما يقلّص قدرتها على حملان الأفكار، ويجعل الفكر مأزوماً بضيق الوسيلة الناقلة له؛ لأنك في مطابقة دلالات اللفظتين لن تجد غضاضة في إبعاد إحداهما عن قاموسك الفكري، وخطورة هذا الإبعاد المتأثّر بالترادف أنه يزيح دلالات أخرى عن الفكر يُخشى تلاشيها بسبب المطابقة وبلادة الذهن المستكين للترادف.
(ب)
ما هو الاسم إذاً: هو دالّ اعتباطيٌّ على شيءٍ يحمل دلالة بعد تسميته مصادفة، دون وعي أو منطق يربط الاسم بالشيء؛ فالأسماءُ عين الأشياء بناء على اتفاق تلقائي غير وعي نشأت عليه اللغة مصادفة، ولا يصحّ القول: إنّ الأشياء تحمل أسماءها ذاتياً كجزء من طبيعتها، وإلاّ لما تفرّقت اللغات والألسن، وأصبح الوعي طبيعة في الأشياء، تدلّ الإنسان على مسمّياتها، وهو ما يستحيل عقلاً وواقعاً.
ونحن حينما نقول: (للناس من أسمائها نصيب)، فذلك على مرمى العشوائيّة وليس القصدية، فإذا سمّى المرء ابنه (شجاعاً)، فإنّ الاسم لا يدلّ على طبيعة المولود، وليس ضمانة أن يحمل المولود دلالة الاسم المتّفق عليه؛ وهذا لا يعني إنكارنا للعامل النفسي الذي يسقطه الاسم على صاحبه، ويدفع به سعياً لحملان دلالته واقعاً –بعفويّة أو قصديّة- لكن النفس الإنسانية أكثر تعقيداً من قدرة الاسم على نقل عدوى دلالته وإحلالها في شخصيّة الإنسان، مثلما حال الاسم نفسه يدلّ على الشيء لكنه ليس هو الشيء نفسه بطبيعته، فاسم الشجرة بحال من الأحوال ليست الشجرة؛ فأسماء الأشياء نشأت عبر مصادفات لغوية ولّدتها أفواه الناس دون أسباب منطقيّة موجودة في الأشياء عينها.
هكذا تكون خاصية الاسم الأولى هي تمييز الأشياء، والخاصية الأخرى أنّها اعتباطيّة توافق الناس عليها بعفوية. ولذلك نفهم محل التعجب على عدم التقارب بين مدلولات الأسماء وطبيعة الشخوص الذين يحملونها، وذلك لأنها أمنية من صانع الاسم، وهي أمنية مجردة عن أيّ ارتباط تعليلي، ولا تملك قوّة التحقّق الواقعي. هكذا لا يكفي أنّ نسمّي المريض سليماً -كما هي عادة الأوائل في التشاؤم والتفاؤل- حتى يشفى، إذا لم تتوفّر شروط الشفاء، لكنّه عامل نفسي، وذلك ليس محلّ إنكار، لأنّ قيمته النفسيّة قد تمنح العادة قوّة دفع إيجابيّة، لكنّها بعيداً عن (الخرافة) وبعيداً عن (العامل النفسي) فإنّها لا تحقّق شفاءً؛ (إن هي إلا أسماء).
(ج)
أما (العنوان): فإنه من المعنى ظهوراً أو اعتراضاً أو علامةً أو أثراً، وهذا أصل في القصدية، وأصل في تعمّد الدلالة والمعنى. ومن هنا تتقاطع الاستخدامات: بين عناوين الأماكن والاستدلال عليها بعلامات وآثار، وبين عناوين الكتب للاستدلال على متونها أو جوهر متنها الظاهر والطاغي، ذلك أن القصدية والاستدلالية موجودة في كلا الوظيفتين. العنوان إذاً: دالٌّ –قصداً- على معنى بنيّة إظهاره تقديراً وإصراراً؛ والمعنى قد يكون في المتن كلّه، أو بعضه، أو يكون الاستدلال للمعنى عبر المجاز من خارج المتن. والعنوان -إن كان كلمة أو جملة أو عبارة- هدفه الإرشاد إلى موضوع معلوم عند واضع العنوان، وإن أخفق في دقة الاستدلال، وهو ما يجعلنا نخضع العناوين للمفاحصة والنقد، وذلك لأن العنونة ليست اعتباطاً ومصادفة كما الاسم، بل دليل يرتجي من ظهوره أن يحقق دلالة، فالعنوانُ عين المعنى على نيّة مقصودة.
هكذا تكون البلاغة خاصيّة أساس تدخل في ابتداع العناوين، لطالما كانت البلاغة في الإيجاز الذي لا يخلّ بالمعنى، ويكون إيجاز العنوان بؤرة تركيزيّة قويّة كخلاصة لتعريف البلاغة؛ وتأتي خاصيّة القصديّة: لأنّ اللفظ خادم المعنى، فيكون العنوان كذلك خادم المتن ومؤلّفه، وهذه القصديّة هي الموجبة للجدل على مدى دنوّها أو ابتعادها عن المتن، كما أنّ القصديّة لدى مؤلّف المتن قد لا تكون واقعة على المتن عينه، إنّما دعاية وتسويق له عبر إيجاد عنوان مؤثّر يجذب الآخرين إليه. ومن خصائصه أنّه قابل للطعن بالاستناد إلى عللٍ قد تكون موجودة في المتن بالنسبة لمتلقّي المتن، ممّا ينتج اختلافاً في التبرير القصدي ومدى تماسكه. ولذلك قد تعترض على (عنوان ما) تحت حججٍ تستند إلى إشكاليّة العنوان والمتن، أو بين العنوان وفضاء العنونة؛ بينما لا يمكن الطعن بالأسماء، لأنّها لا تحمل جدلاً في علاقتها مع الأشياء، لطالما كانت العلاقة بينها وبين الأشياء توافقيّة عفويّة.
هكذا يكون: (إيجاز العنوان، وقصديّته، وهدفه) أساسٌ في إشكاليّته مع المتن، وهي ناتجة عن إشكالية المعنى بين فاعله ومستقبله/مُصدّر المفهوم، فإن مرامي العنونة ومقاصدها عند فاعل العنوان ليست مضمونة المفهوم عند المتفاعل مع العنوان، الذي يتداوله تحت تأثير فضاء العنونة وجدليّته مع المتن، فكلّ عنوان جاذب أو نافر له ظروفه وأسبابه، ومن هنا تنشأ جدلية التجاذب والتنافر حول العناوين.
لذلك لا يتساوى قولنا: (اسم الكتاب..) مع قولنا: (عنوان الكتاب..)، لأنّك بتسمية الكتاب وقعت في خصائص الاسم وهي ليست بالضرورة أن تكون في الكتاب، أما العنونة فإنّ عنوان الكتاب دالّ على الكتاب لمعنى في المتن، فشيءٌ قويٌّ في العنوان يدخلك على المتن، ويدخلك في جدل معه، أو ما يتعلّق به مباشرة أو تلميحاً، وهذا أصل في المثل: ( المكتوب باين من عنوانه)، فلقد فضح العنوان المتن، لأنه صوت الكتاب العالي وجوهر المعنى الظاهر. وشيءٌ من هذا في صدر البيت المنسوب للجاهليّة: (لِمَنْ طَلَلٌ كعُنوانِ الكتابِ)، لأنّ العنوان كأثر للكتاب أكثر ظهوراً من الكتاب نفسه، فكم من المخطوطات والكتب التي تلاشت وغابت متونها لكنّ عناوينها ما زالت باقية تدلّ عليها وإن فقدت. وكم من العناوين مررنا عليها ولم نطّلع على متونها.
(د)
لا نريد هنا أن نصدّر أن كل عنوان كتاب يُظهر معنى متنه ويرشد عليه، لأنّ العنونة قد تأتي أيضاً مغايرة لجوهر المتن أو تحمل دلالة إضافيّة بالتأويل والمجاز، بيد أنّ وقوع الاختلاف أو المغايرة المدروسة أو المعيبة بين العنوان والمتن هو عمل قصدي إرادي، وهذا من نريد أن نركّز عليه، وليس اعتباطاً كما حاله في الاسم، وقد تكون لهذه العنونة اعتبارات تخص إبداع المعنون، وخاصة إنّ كان ينتج فكراً وابداعاً، ولعلي استهدي بأبي العلاء المعري، على أنه من أوائل الذين أبدعوا في استغلال العنوان على دلالات تخصّ المتن وتحمل بالتشابه وبالغمز وباللمز دلالات أخرى جدليّة، وكأنّه أراد من عناوينه أن تكون جاذبة، وفي الوقت عينه أن تكون فاتحة لآفاق من التأمل والجدل، كما عنونة كتابه في قراءة شعر الوليد البحتري: (عبث الوليد)، وهو عنوان جاذب لا يرشد لدلالة المتن فحسب، بل يمضي بك الى دلالة اللفظة الأولى: (عبث المولود)، ويلمز إلى (عبث الوليد الثاني بن يزيد) والذي ينسب له التاريخ ارتكابه المحرّمات من دعارة ومجون واستباحة؛ وكذا حاله في عنونة كتابه عن أحمد المتنبي المعنون: (معجز أحمد)، هكذا ينحت لكتبه عناوين ذات دلالات جاذبة وحمّالة أوجه، على غير أهل عصره. (سقط الزند، رسالة الغفران، الفصول والغايات في تمجيد الله والمواعظ، لزوميات ما يلزم)؛ وما نريد قوله هنا: إن (العنونة) بحد ذاتها حرفة وإبداع وفكر في آن معاً؛ لذلك فإنّ عملية نحت العنوان تستلزم تحقيق المعادلة بين الإبداع والجذب، وفي الوقت عينه الادلال على فكرة الموضوع أو جوهر المتن، لأنّ إهمال العنوان قد يضيّع متن الكتاب عن الناس فلا يدلّهم أحد عليه، فكم من الكتب التي تستحقّ القراءة وغابت لغياب العنونة الجاذبة أو الموزونة، أمّا العنوان الجاذب فإنّه صوت الكتاب العالي، ولربّما كان بحدّ ذاته فاتحة لمتون أخرى من النقد والجدل.