طاهر زمخشري
200 صفحة من القطع الكبير
الاغتراب نقيض الاقتراب.. كلاهما له مذاق حلو. وآخر مر. في الاغتراب أشواق وأشواك تماماً كما هي الحال في حالة الاقتراب.. الوحشة وحدها هي الفاصل بين الحالتين حين يأتي الاغتراب غربة بعاد روح لا جسد..
ترى أيهما أخذ بشاعرنا زمخشري وهو يوقّع ألحان اغترابه؟.. إجابة على السؤال جاء الجواب في بيت شعره.. وفي بداية أولى صفحات ديوانه:
وما تغربت عن أهلي. وعن سكني
لكن ينازعني إحساس مغترب
غربة الداخل هي الأقسى على النفس حين يضيق المكان، والسكان، والزمان بأهله.. ولكن يبدو أن غربته تمثِّل حيزاً من حياته وليس كل حياته.. هذا ما شهد به شعره (نحن معاً نقرؤه فقرة فقرة)
البداية روحية لا رياح فيها.. إنها ابتهال إلى الخالق في يوم عرفات:
رب لبيك يا سميع الدعاء
ننيب إليك في الضراء
من بعيد عن المشاعر قد جاء
نبينا ينوء بالحوباء
أنت قدرت فاستراح مطيعا
للنوى عدد رحابك السمحاء
دماء يطول ويطول عنوانه استغفار، واستذكار.. وأوبة وتوبة.. وهذه (نفثة) زمخشرية:
قد حملت الأسى.. وفاض إهابي
بعد أن ذاب في الشجون شبابي
وأنا لم أزل ألملم أوراقي
وأمشي مكبلاً بالصعاب
فطويت الأحلام ازحف في التحية
وزادي دموعي أوصابي
ليس وحده الذي طوته الأعوام أو كادت.. وليس وحده الذي انطوت أحلام عمره.. وليس وحده الذي أوغل الزمان بشوطه، وليس وحده المثخن بجراحه.. يصهره الداء ويسطو بعذابه على فؤاده المذاب.. وليس وحده الذي أنزع كأسه بالقذى وبالأذى.. تلك مشيئة قدرية لا نقدر على صدها أو ردها.. إنها الوجه الآخر.. أو النصف الآخر من الكأس.. ما يقربنا من الشكوى هذا البيت:
غير إني لما يعاني فؤادي
جئت أرجو من الإله ثوابي
لنفس الشكوى جاء فهمه للحياة التي لا بد من تقبلها رغم مرارتها باليقين والاحتساب.. لا بالوهم وما يحمله من عذاب:
أنا للوهم قد وهبت حياتي
وبنيت الصروح بالأمنيات
فرجائي باليأس يأكل أيامي
ويبقى على مداها شكاتي
عشت في قبضة الليالي أسيرا
تترامى بلوعتي زفراتي
شريط رمادي من الذكرياته يمتد عبر كلماته إلى درجة البؤس والبأس:
وأنا لا أزال أحمل آلامي
ويحتث من خطاي ثباتي
(بين الصباح والسماء) تحمل نفس الشكوى.. الصباح ممل.. والمساء مخل.. لا شيء في النهار أو الليل يملأ النفس راحة..
يأخذنا شاعرنا معه إلى (ربوة ذكرياته).. ماذا عنها؟
ربوة الأمسيات والذكريات
لا تزالين مسرح الصوبات
كل شيء لديك يضحك حتى
الصخر يرنو معبِّر اللمحات
في ذراع الدجى على دربك المــ
شــرق كانت تلوح لي أمنياتي
فاغني، والليل ينشر أفراحي
وأوتار مزهري خفقاتي
والنهاية المعهودة لكل تجربة وجدانية فاشلة كانت منتظرة:
فإذا بالنوى يبدد أحلامي
فهل تحفظين لي ذكرياتي؟!
يذكر هنده أو ليلاه بما يعتمل في داخله من حب وهو يذرع بخطى مثقلة ربوة ذكرياته.. عثرة خطوات مجهدة ومجهدة انتهت إلى كبوة..
(فؤاد) شاعرنا الأقرب إلى قلبه وقدمه الداء كان له هذا النداء:
يا فؤادي الذي يصفق بالآمال
وما زلت أجتليك رجاء
أنت يا فلذتي ويا قرة العين
ويا من أجيد فيه الغناء
إن رمتك الأقدار في قبضة الداء
أعدني بما تلاقي شقاء
فسأدعو من لا يخيب داعيه
ورجع الصدى يعيد النداء
دعا ربه من أجل الشفاء.. والبرء من سقم فؤاده الذي يسكن في فؤاده.. تعافى فؤاد وبشفائه جاء الشكر:
رَبِّ رحماك قد وهبت فؤادي
خير ما أرتجيه من أفضالك
أنت قدرت ثم كنت رحيما
حين أرسلت عبرتي لسؤالك
عضه الداء فالتمست أياديك
فكان الشفاء أحلى نوالك
تمثّلت أمامه صورة فاتنة أسرته شاعره وفجرت طاقته الشعرية:
وفاتنة ماس الدلال بعدها
وعربد دون الخصر منها بموجتين
فقامت تهادي في ستار من الدجى
وإن عليها من حواشيه بردتين
وغابت عن الأنظار خلف غدائر
فأسفر وجه الصبح ما بين خصلتين
شعر مسترسل أسود مجدول.. ووجه وردي يشبه هالة بدر مستدير.. وعينان تتموجان بسحرهما.. وأهداب نافرة مستفزة وصوت أنثوي مثير:
فأغضت وقالت كيف أعملت وجنة
وان بها من ضاحك الروض وردتين
وانك لم تلحظ وانت تضمني
فنو نابه الإغراء صور مقلتين
أما هو:
فقلت لأني من حديثك واللما
شربت.. انعشتني بسكرتين
وانتهى المشهد على وقع أكثر من مشهد كلها تصب في خانة خانة الغزل.. والتوصيف فمن ذات الرداء الأسود، إلى الحلوة، إلى ناهد. إلى ذات ليلة، إلى أحلام الربيع، إلى عند الفجر، إلى موجة النور، إلى ربة العصفور، إلى صدى رابية ثانية، إلى راقصة البالية، إلى الليلة القمراء، إلى نجي الفؤاد.. إلى.. وإلى.. وإلى قصائد غزل حب يصيب ويخيب يحدده الموقف وتشكله المناسبة، وترسمه (النظرة).
من وراء الغيب ناداني هواها
فهفا القلب يغني بسناها
غادة والورد في وجنتيها
فتنة تلهو بأطياف بهاها
وشراع راقصي للمجداف في
صورها يسري بأحلام صباها
زورقه الأرضي لا نتوءات فيه ولا غبار.. تحركه نظرة:
قد تعلقت بها من نظرة
طوّفت بالروح في دنيا رؤاها
هكذا شاعرنا كغيره من الشعراء في كل واد من العشق يهيمون، ويقولون ما لا يفعلون، أو يفعلون.. الجمال هو أسرهم.. والفتنة طاقتهم للطرح ومعاناته.. ونهاياته.. عذوبته وعذاباته..
من الحب المباشر إلى حاله البائسة التي لا يشكو معها من سغب رغم الداء والإنهاك لجسده.. ولكبده.. وللسوس في أسنانه:
ولا أزال على رغم الشجون وما
به شقيت أغذ السعي للشهب
إنه يواجه مُرَّه بجلده وصبره.. وبابتسامة لا تفارق شفتيه لا تعني أبداً أنها ظاهرة انتصار بقدر ما تعني أنها حالة تجلّد على حد قول الشاعر:
وتجلدي للشامتين اريهموا
إني لريب الدهر لا أتزعزع
في مقطوعته (هذه حياتي) يبدو أكثر وضوحاً.. وإيماناً بواقعه، ومواقعه كيف قاوم.. وملك القدرة على التحمّل والمصائب:
صفقي يا رؤى بكوني الطليق
وانثري الرجع نادياً بالرحيق
أنا بالله استعين، وبالصبر
ففي الصبر فرحة المستضيق
ما ضمرت الأذى لمن حاول الكيد
وما خفت عذرة من صديق
أطلب المجد لأنسج الأقاويل
وفي حلكة الظلام السحيق
وأغني فيرجع الكون أنغامي
وما أرتجيه صدق البروق
حياة جديدة لشاعرنا الحزين أبداً.. أنسته كما أنستنا جميعاً معه تأوهاته.. وزفراته.. وغزواته الوجدانية ولو لفترة محدودة، سعدنا لحلها ولو مؤقتاً.. المغرم بالجمال يعود إلى عادته القديمة.. كما النديم يبحث عن نديمه: ها هو في درب المنى تخنقه آهات لوعته:
نامت الأطيار في أوكارها
وأنا بين ظنوني مسهد
تزحف الاشباح في كهف الدجى
لا غتيالي، وفؤادي مجهد
ويقيم الوهم حولي حائطاً
في ثناياه توارى المقصد
الحيرة وحدها هذه المرة هي كابوسه.. والوهم هو كل مفردات قاموسه ومن تلك هي حاله لا طيور تأمن على أوكارها.. أو حتى على أشجارها، إنها عرضة للاقتناص.. وتلك هي حالة شاعرنا الذي انطفأت في درب حياته آخر شمعة كان يستدل بها على دربه.. أي درب قلبه وحبه:
يا لغرابة الشعراء ما إن ينتهي الواحد بهزيمة حتى ينتفض من جديد على وقع عزيمة تقاوم ولا تساوم
قد تجرعت من غرامك صابا
ولبست الهوان منك ثيابا
فمسكت القيثار فارتعش اللحن
دعاء النشيد منه انتحابا
كنتِ في خاطري وفي عمق إحسا
سي رؤى تنشر الأماني عِذابا
فتوارت رؤلِ عن مسرح العين
وعادت بي الليالي يبابا
والعيون التي رعتك زمانا
أصبحت لا تراك إلا ضبابا
كنت وهماً يشاغل العين مرآه
فأضحى قذى يليب الصوابا
فتغرّبت عن مرابع إنشادي
وأوغلت في الحياة اغترابا
وارتشفت السلوان من قبضة
النسيان عذبا مجيبا مستطابا
قابل الجفاء بالنسيان.. كان منه الوفاء لكرامة قلبه الذي أعطى.. وما أبقى.. ولكن في مهب الريح..
شاعرنا في جل غزواته الشعرية يطرق الأبواب المغلقة فما تفتح له.. كره الأبواب.. واختار (الغاب) سكناً وسكينة له.. ولكن هل يقدر؟!
ليتني يا خمائل الغاب ارتاد
مداك الفسيح بين الغصون
ليتني كالطيور في جوك البارد
أشدو لوحدتي بأنيني
ألثم الطل كلما صبه الورد
وأروي مشاعري بالمزون
لا أرى فيك حسرة تلهب الحق،
ولا شقوة تحز وتيني
لا ولا يمرض التبلد وجداني
ولا اكتوي بنار الظنون
لا ولا تقتل المواجد إحساسي
ولا توقظ المآسي شجوني
لا ولا تنهض الضغينة بالأحفاد
تجتث خطوها في جنون
فأنا ها هنا أعب منى النفس
وقد وشح المراع يقيني
لكل هذه العوامل والأسباب، هجر الناس، والوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس. واستوطن الغاب غير آبه بضواري الغاب من أسود، ونمور، وذئاب، وأفاعي.. لا أخاله يقدر على ترويضها، أو الحصول على رخصة إقامة ولو لدقيقة واحدة فيها. الأنياب المفترسة الجائعة في انتظاره قبل أن يدق أطناب خيمته..
طاهر زمخشري لا يحب التكبر.. لهذا هجاؤه لكل متكبر:
صعِّر الخد بالغرور ازدهاء
لا تراك العيون إلا وطاء
وأغمض الطرف عن مكانك في
السفل وجاوز بوهمك الجوزاء
حسناً لو قال: وجاوز بكبرك الجوزاء..
أنت بالجهل قد توشحت زيفا
حاك أطرافه عليك غباء
وتمنطقت بالبشاشة تمويهاً
يداري نسيجه البغضاء
جميل أن لا ينسى شاعرنا ما يوجبه العقل وقد أعطى لنا الكثير مما توحيه العاطفة الوجدانية، إنه ينقلنا سوياً معه إلى دنيانا.. دنيا العرب:
طال التآمر بين العرب فاندلعت
حرب لها من سواد الحقد نيران
فعاث فيهم عثار فلَّ وحدتهم
وشتت الشمل والأحداث بركان
كانت عروبتنا درعاً.. ووحدتنا
رمزاً فضيع معنى الرمز أحزان
الإخوان أنسب من الأخدان: ويتساءل:
فهل يعيد مع الأيام عزته
ديدنه من دعاة الخير أعوان؟
المشكلة فينا.. وليس في ديننا.. أخذتنا دنيانا شر مأخذ.. واقع أمتنا العربية والإسلامية حتى اللحظة لا يبشّر بخير.. مدى الفرقة يتسع.. بحرابنا على بعضنا نكوم أنقاض خرابنا على مشهد ومباركة من أعدائنا..
أخيراً مع رباعيته وهو يستقبل عاماً من عمره.. يرحمه الله:
طويت السنين ولم تطوني
وما زلت فيها طويل النجاد
تمر الليالي بأحداثها
عليّ فأرمقها في عناد
واستقبل الخطب متبسلاً
عظيم الإباء طروب الفؤاد
وأشدو فيطرب لحني السنين
فما مرَّ بي العام إلا وعاء..
إنها رحلة الأيام والشهور والأعوام.. رحلة حياة مقدَّرة لا مكان فيها للعناد.. ولا المكابرة وتحدي المستحيلات.. نأخذها كتجربة ونعبرها بنفس التجربة الحياتية وفق قدراتنا وتقديراتنا.. ننجح.. ونفشل.. المهم أن نعمل دون مكابرة.. ولا تهوين.. ولا تهويل.. الحياة حصاد عمر.. وخير حصاد ما أثمر وأغنى بثمره.. وأمتع وأشبع..
- الرياض ص.ب 231185 الرمز 11321 - فاكس 2053338