Saturday 28/12/2013 Issue 423 السبت 25 ,صفر 1435 العدد
28/12/2013

بهنس

(اسمي محمد حسين علي صالح، وبهنس هو كنيتي منذ الصغر، لأنني الظاهر كنتُ أتبهنس..) والبهنس في اللغة: الأسد. وبهنس في مشيه: تبختر..

ويقول بهنس: (واحد من أساتذتي مجازاً، فنان ياباني يدعى ساوبورتشيفاوارا، وهو راقص ومخرج وصاحب ألاعيب عجيبة في إضاءة الخشبة، وصاحب نوع فريد من الرقص مثل فلسفة وحكاية وقصيدة، رقص يعتمد على التراث العريض لفنون القتال اليابانية، والباليه، وهو من أسرع الراقصين حركة في العالم، ولكنه آية في أسلوب الثبات الحركي – أو السكون»stillness» وفي أحد أهم أعماله (عظام في صفحات) يستعمل آلاف الصفحات من كتب موضوعة في رفوف، ويرقص بسرعة رهيبة ناثراً كل الصفحات في الهواء بالتتالي، ويجعلني أستحضر أمل دنقل:

(تتساقط أوراق ديسمبر الباهتة

هو عمرٌ من الريح

هذا الذي بين أن تترك الورقةُ الغصنَ

حتى تلامس أطرافها حافة الأرض..)

والله العظيم يا محمد، ذلك المعلِّم الياباني يترجم هذه الأبيات عملياً في عرضه – عظام في صفحات – فتأمَّل..)!

هكذا كان الفنان والروائي والمبدع السوداني محمد بهنس يحاكي أصدقاءه العرب على مواقع الإنترنت من باريس، في فبراير 2006 وكأنه كان يشعر بما ينتظره على رصيف قريب من وطنه في ديسمبر 2013 بعد رحلة من الكتابة أثمرت رواية عنوانها (راحيل) وصفها أحد النقاد غير المعروفين بأنها الرواية التي لو قدر لها أن تصل إلى نقاد معروفين لاحتفوا بها احتفاءهم بموسم الهجرة للشمال وجعلوا من محمد بهنس الطيب صالح وأكثر..

وبعد رحلة مع الفنون البصرية والصوتية والجسدية المذهلة، يقول: (لستُ أدعي عرضاً مع راقصين، فذلك فن يتطلب تمريناً ووقتاً لا أستطيع توفيرهما، ولكني أعدُّ نفسي لعرض حيّ مصاحب لمعارضي في الرسم بالضوء، وهو من صميم مشروعي..)

ماذا كان مشروعك يا بهنس؟ تكتب، تعزف، تغني، ترقص، ترسم بالفرشاة، وترسم بالفحم، وترسم بالضوء، وترسم أخيراً بموتك من الجوع والبرد على رصيفٍ قاسٍ بالقرب من موطنك الذي كنت تبدع من أجله، وميدان التحرير الذي كنتَ تتفاءل به، فخذلاك وخليا بك مجهولاً، كما لم يخلُ أحدٌ بأحدٍ ممن لم يكونوا إلا مبدعين -فكأنك لم تكتب لأحد قط، ولم تعزف وترقص سوى للعدم، ولم ترسم إلا للصقيع والثلج. لماذا؟

قبل شهرين تقريباً كتب محمد عثمان يوسف، من القاهرة، في صحيفة (الدار) السودانية، مناشداً عموم المثقفين في الوطن العربي إنقاذ بهنس، ولكن أحداً لم يستمع. يقول الراوي من ضمن ما يقول: كان بهنس يقيم في باريس لأكثر من خمس سنوات ويشارك في المحافل الثقافية والمعارض الفنية،وكان متزوجاً من حسناء فرنسية يعمل والدها في وظيفة أشبه بحاكم ولاية، وكان بهنس المولود في السودان مطلع السبعينيات يملأ المجالس الباريسية المرموقة إبداعاً؛ وحين عاد في زيارة خاطفة لمسقط رأسه بإحدى حارات (أم درمان) وجد أن أمه قد توفيت منذ ثلاث سنوات ولم يخبره أحد ليأتي ويودعها ويصلي عليها. فدخل بهنس في حالة قاسية من الحزن الشديد والاكتئاب والعزلة، وانطوى على نفسه، ولم يخرج إلا مغادراً للقاهرة مع ضجيج الميادين الثائرة فبدا كأنه نبتُ أرصفةٍ، يأكل أي شيء وينام في أي مكان ولا أحد يلتفت إليه إلا مبتعداً عن منظره. وقد بحث عنه بعضُ أهله بحثاً يشبه (تحلَّة القَسَم) وقيل: لم يعثروا عليه، بينما المارة يعرفونه بالمجنون المتشرّد..

ويوم الخميس قبل الماضي (19 ديسمبر الجاري) نشرت الصحف العربية خبراً من أخبارها البائتة: (مفترشاً الأرض ملتحفاً السماء ظل الموسيقي التشكيلي الروائي السوداني المبدع محمد حسين بهنس هائماً في شوارع وأزقة القاهرة حتى أبلغ الناسُ الجهات الأمنية عن جثة بشرية متجمدة من البرد تحتضن ركناً من رصيف مهجور). ونشرت الصحفُ في الأيام التالية: (شخصيات ثقافية سودانية ومصرية وعربية تنعى الشاعر والروائي والفنان المعروف محمد بهنس وتصف رحيله بالفاجعة). عن أي فاجعة يتحدثون؟ فاجعة رحيل بهنس أم فاجعة تخليهم عنه وتركه للجوع والبرد حتى الموت؟؟

أتكلم عن نفسي فقط: لم أكن أعرف محمد بهنس، ولم أقرأ أو أشاهد أو أستمع إلى شيء من أعماله الإبداعية إلا بعد قراءتي لخبر وفاته على هذا النحو المأساويّ. وأقول تحت القسَم الأدبيّ لكل من قرأ أو شاهد أو سمع عملاً من أعمال بهنس الإبداعية وأعجب بشيء منها في حياته: دمه المتجمّد على الرصيف، ثم في ثلاجة الموتى أياماً طويلة كمجهول هوية، في رقابكم جميعاً. وأقول لبهنس: لا تسامح أحداً منهم، يرحمك الله.

وقد يسألني بعضهم: لماذا؟ وماذا كنا سنفعل له؟ أقول: ثكلتكم أمهاتكم إن كنتم مثقفين؛ فالرجل كان مبدعاً بمعنى الكلمة، بخاصة في أعماله التشكيلية وابتكاراته في الرسم بالأضواء الطبيعية كالقمر والشمس – التي أدهشتني حين رأيتُ بعضها على مواقع إلكترونية- وإن كنتُ حتى اللحظة لم أتمكن من قراءة روايته (راحيل) وأتوقع أن فيها محاكاة لسيرة نبي الله يوسف بن يعقوب وراح يل عليهم السلام جميعاً. فلو كنتُ أعرفه أو أعرف شيئاً عنه وعن أعماله وأزمته - قبل تجمّده وموته - ما كنتُ ترددتُ في الأخذ بيده وإعادته إلى (باريس) وليس إلى أيّ مكان آخر. فالبلاد التي قدّرت فنه وزيّنت جدران قصرها الجمهوري (الإليزيه) بلوحاته، كانت قادرة حتماً على علاجه وإخراجه من أزمته النفسية الطارئة.. وليس نكرانه وتركه للجوع والبرد حتى الموت، ثم التباكي عليه.

هذا، وقد اقتصرت مراسم نقل جثمان محمد بهنس من مشرحة زينهم بالقاهرة إلى مقبرة أم درمان بالسودان يوم الجمعة من الأسبوع الماضي على بضعة أشخاص من الصحفيين واثنين من المتعرفين عليه- رحمه الله- و(إنا لله وإنا إليه راجعون). فلتصفق الجماهير العربية طويلاً لإبداعاته التي ستتم المتاجرة بها بعد حين..

- الرياض ffnff69@hotmail.com