Saturday 28/12/2013 Issue 423 السبت 25 ,صفر 1435 العدد
28/12/2013

المعيدي!

مرة ذهبت الكاميرا نحو منطقة الأهوار العراقية لتصور الناس هناك. والأهوار منطقة مائية تعود إلى الحقبة السومرية قبل أكثر من سبعة آلاف عام وتشكل نسبة ثلثي مساحة الجنوب العراقي يعيش فيها قوم يطلق عليهم المعدان، وهم يعيشون حياة بدائية فطرية حتى ضرب بالمعيدي المثل القائل «أن تسمع بالمعيدي خير من أن تراه» والحقيقة هي «أن ترى المعيدي خير من أن تسمع به» فهو شخصية غريبة الأطوار، يتمتع بذكاء فطري نادر، وهو لا يثق بالآخر سوى بنفسه خوفا من أن يتكرر التاريخ الصعب الذي مر به فيغدر به.

تقدمت الكاميرا ووجهت نحو شخصية أحد المعدين في الأهوار وسأله مقدم البرنامج «ما هي أهم مشكلة تعاني منها؟» أجابه المعيدي:

- هل تريد أن أتكلم الصدق أم للتلفزيون؟

هذه البداية لم تظهر على الشاشة بل حدثني عنها مخرج البرنامج وحذفت أثناء التقديم!

ماذا يعني هذا القول وكيف ننظر إليه عراقيا وعربياً؟

الشاشة التلفزيونية العربية هي شاشة مزيفة، تجمل واقعا مراً وتمنحه بهرجة واحتفالية ومجداً وتوحي وتؤكد بأن واقع هذا النظام أو ذاك عسل ممزوج باللبن، فيما هو واقع ملتبس وينطوي على خطورة وهو لغم خرافي الحجم سوف ينفجر يوما ويطيح بالرؤساء والمرؤوسين ويهدم البناء الاجتماعي ويضع المجتمع والواقع تحت رحمة الله سبحانه وحده عسى أن ينقذهم من الويل ويلجئون للقول «الله أرحم الراحمين» ويستسلمون لليأس وانتظار المعجزة من السماء.

المتأمل للشاشة التلفزيونية العربية يجدها شاشة لا علاقة لها بالواقع فهي وكاميراتها تدور في فلك النخبة السياسية والثقافية والاجتماعية، وهذا يتطابق مع بداية ظهور الصورة المتحركة التي ظن وعمل المشرفون عليها بأن الطبقة الفقيرة غير جديرة بهذا الفن الراقي الجديد وأن الكاميرا جدير بها فقط نخبة القصر ونخبة الحاكمين.

لقد تعود الناس بأن التلفزيون وشاشته يقلبان الحقائق. فالناس يعيشون واقعا ويشاهدون واقعا ثانيا على الشاشة.

هذا شأن خطير إذا لم يدرك الحاكمون والمهيمنون على الشاشة التلفزيونية العربية أن يؤسسوا شاشات جديدة ويتركوا سياسة الشاشات القديمة القائمة على مبدأ التضليل، لأن هذا المبدأ قائم على إخفاء الحقائق الموضوعية وتقديم بديل مزيف عنها. وهي موضوعة ذات طابع تآمري يستهدف المواطن، فيما الحقيقة أنه يستهدف المهيمن على الشاشة قبل أن يستهدف المواطن لأن في كشف الحقائق الموضوعية قوة للسيد الحاكم وليست ضعفا له، وكشف الحقيقة الموضوعية أمام عين المشاهد سيسهم في بناء الواقع وتدفع نحو التفكير به وبذا تحمي الشاشة التلفزيونية الحاكم مثل ما تحمي المواطن، فمن يا ترى يقف وراء مبدأ الزيف هذا الذي دفع بمبدأ إنشاء القنوات الفضائية التلفزيونية بحيث توجهت كل قناة لفئة محدودة من الناس تعمل على إغوائهم بالوهم حتى إذا ما دق جرس القيامة سترى الناس يتبعثرون شذر مذر وتبرز في سلوكهم النزعة الحيوانية فيقتلون ويقتلون!

لقد عود التلفزيون الناس على الكذب، ومن هنا جاء قول المعيدي «تريدني أتكلم الصدق أم للتلفزيون؟»، لقد تمكن هذا الفطري «المعيدي» من إصابة كبد الحقيقة ولخص ببدائيته شكل ومضمون الشاشة التلفزيونية، وكشف حقيقة موضوعية مفادها أن الحقيقة غائبة عن تلك الشاشة.

لم تعد الشاشة التلفزيونية مزيفة للواقع فحسب في توجيه الكاميرا نحو النخب، بل صارت لديها بلاتوهات تزييف، تزييف الأمكنة، وتزييف شكل الانفجارات، وتزييف أنواع الأسلحة، وتزييف الموتى، وتزييف ألأحياء. وصارت وتحولت إلى مليشيات نظامية رسمية مجازة بدون إجازة مكتوبة مختومة وموقعة.

لمن ينشئ الفضائيات ولمن يبذخ عليها كثيرا وجداً أنقل له حكمة المعيدي الذي عرف وكشف واقع الإعلام العربي عسى أن يعيد أصحاب الفضائيات النظر في موقفهم من الواقع لنقله كحقيقة موضوعية، وهذا الكشف أمام عين المشاهد هو نعمة ورحمة من الباري سبحانه لأن الأمانة والرزق تقتضيان الامتنان وجانب بسيط من هذا الامتنان هو عدم تزييف الواقع والاستماع لحكمة المعيدي الذي ينبغي القول عنه «أن ترى المعيدي خير من أن تسمع عنه»

- هولندا k.h.sununu@gmail.com