في أصيل اليوم الأول من شهر رمضان المبارك من عام ألف وثلاث مائة وأربعة وثمانين للهجرة وما بعده من ساعات وأيام انطلقت أصوات كل من المذيع الكبير الأستاذ (منير شماء)، والشاعر المذيع (منير الأحمد) ابن الشاعر العربي السوري الكبير (بدوي الجبل) يرحمهما الله والمذيعين (خميس سويدان) و(محمد عبدالرحمن الشعلان) يرحمه الله و(زهير الأيوبي) وغيرهم....
انطلقت تلك الأصوات في ترداد هذه الجملة الشعار (إذاعة المملكة العربية السعودية من الرياض)، معلنة أن بثاً إذاعياً جديداً قد انطلق من هذه الديار ليصل إلى العالم كله في وقت قريب..
* * *
كانت المجموعة التي انطلقت بها (إذاعة الرياض) من مبناها الأول في شارع (الفرزدق) لا تزيد بحال من الأحوال عن ستين أو سبعين رجلاً.... وكان الذين يشغلون الصف الأول من المسؤولين في هذه الإذاعة يتقدمهم معالي الشيخ (جميل الحجيلان) وزير الإعلام في ذلك الوقت والذي أسأل الله له دوام الصحة والعافية والتوفيق في الدنيا والآخرة، ومن روائه الأستاذ (عباس فائق غزاوي) يرحمه الله، مدير عام الإذاعة في المملكة آنذاك....
أقول: كان المسؤولون في (إذاعة الرياض) في ذلك الوقت هم الزملاء الأساتذة: (خميس سويدان) مراقب عام البرامج، والمهندس (محمد موسى المجددي) مدير الأستديوهات يرحمه الله وهو محور هذا المقال، و(عبدالرحمن هليل) مدير الأخبار، و(محمد عبدالرحمن الشعلان) يرحمه الله مساعد المراقب العام للبرامج لشؤون التنفيذ، و(عبدالرحمن الشبيلي) مساعد المراقب العام للبرامج لشؤون الإنتاج، و(منير شماء) مدير القسم الإنجليزي، و(سعيد الرندي) يرحمه الله رئيس قسم الإخراج، و(صبحي المحاسب) رئيس قسم التنسيق، و(منير الأحمد) يرحمه الله رئيس قسم المنوعات، و(محمد مصطفى الخواجة) رئيس قسم الترجمة والوكالات و(إبراهيم الضويحي) رئيس قسم مكتبة التسجيلات و(صدقة محلاوي) رئيس قسم الاستماع والمستر (موسمان) المهندس الألماني رئيس قسم الصيانة، والمهندس (عبدالعليم السباعي) مدير محطة إرسال (الدرعية) والمهندس (عدنان النحوي) مدير محطة إرسال خريص.... بالإضافة إلى المهندس (عبدالعزيز الصابري) الذي كان مديراً للشؤون الهندسية...
* * *
لم أكن في ذلك الوقت من شاغلي موقع في الصف الأول من المسؤولين، بل كنت واحداً من العاملين البارزين وراء هذا الصف من المسؤولين، فقد كنت قارئاً للأخبار ومنفذاً للفترات، ومعداً ومقدماً للبرامج، وكان معي وراء الصف الأول عدد من المذيعين والمهندسين والإداريين منهم الزملاء الكرام (محمد عثمان المنصور) و(محمد دعيج الدعيج) و(عبدالمحسن الخلف) و(حسين أحمد بخش)، و(غالب كامل) و(محمد كامل خطاب) يرحمه الله و(محمود أبو عبيد) و(عبدالرحمن الغلاييني) و(فهد الهاجري يرحمه الله و(فؤاد العلمي) و(عبدالرحمن منصور الزامل) يرحمه الله و(سعود الضويحي) يرحمه الله و(سامي أبو الفرج) و(علي الحلوي) و(عبدالرحمن الخريّف) و(محمد علي داغستاني) و(راشد الدريهم) و(راشد الجهني) و(حمد الصبي) و(عزالدين الخطيب) و(محمد سيف الدين الفضل) و(مكي العشماوي) و(صدقة حريري) و(محمد المرضي) و(مهدي الريمي) و(ظافر القرني) و(عبدالرحمن الأحمدي) و(ناصر الطحيني) و(محمد عيّاف) و(عطا الله الطعيمي) و(عبدالكريم بياضو) و(محمد عيد الشيباني)، و(عبدالعزيز عمر جعفر) و(مطر الغامدي) و(عبدالرحمن المبكي) و(عبدالرحمن المقرن). و(عبدالرحمن المقرن) ومعهم عدد آخر غير كبير لم تسعفني الذاكرة ببيانهم فأرجو عدم مؤاخذتهم...
وقد شاء الله سبحانه وتعالى أن يصل بعض من سبق ذكرهم إلى منصب (وكيل وزارة) أو منصب (مدير عام) سواء في (وزارة الإعلام) أو في غيرها من الوزارات كالزملاء الدكتور عبدالرحمن الشبيلي) والأستاذ (محمد عثمان المنصور) والأستاذ (محمد الدعيج) والأستاذ (إبراهيم الضويحي) والأستاذ (عبدالمحسن الخلف)...
* * *
لم تشارك العناصر النسائية في برامج (إذاعة الرياض) عند انطلاقتها الأولى، أعني في الشهور الأولى من قيامها، وكانت الأصوات النسائية التي ظهرت في تلك الفترة هي أصوات نسائية تشارك في برامج تنتجها (إذاعة جدة) وتأتي إلى (إذاعة الرياض) جاهزة للبث على أن بواكير الأصوات النسائية التي شاركت في برامج (إذاعة الرياض) فيما بعد، كانت للأخوات (دنيا بكر يونس) و(فريال مكي كردي) و(بتول مراد) و(نوال أحمد بخش) و(عائشة مصطفى حماد).... وأظن أن الصوت الأول الذي ظهر من الناحية التاريخية هو صوت السيدة (بتول مراد).... الزمنية.
* * *
وقد شاركنا في هذا المهرجان، مهرجان انطلاقة (إذاعة الرياض) كل من الشاعر الغنائي الكبير الأستاذ (مسلم البرازي) يرحمه الله، وعازف الناي الكبير الملحن الأستاذ (عبدالسلام سفر) يرحمه الله...
وقد أتحفنا الأستاذ (مسلم) في تلك الفترة بأناشيد وطنية وإسلامية خالدة كان في طليعتها نشيد (فيصلنا يا فيصلنا... بيدك رافع فيصلنا) الذي أبدع في تلحينه وأدائه مع المجموعة الموسيقار الكبير الأستاذ (طارق عبدالحكيم) عليه رحمه الله... ونشيد (أبو عبدالله) الذي أبدع في تلحينه وأدائه المطرب الكبير الأستاذ (وديع الصافي).... ونشيد (فيصل هو الحد الفاصل) الذي لحنه الأستاذ الموسيقار (محمد محسن) وغناه المطرب السيد (فهد بلان) عليهما رحمات الله.... وقد ظل الأستاذ (البرازي) يرحمه الله يعطي من الأناشيد والأغاني والقصائد الوطنية والإسلامية والوصفية التي رددتها ألسنة الناس، وسار بها الركبان على مدى أكثر من أربعين عاماً إلى أن أقعده المرض في سنواته الأخيرة قبل أن ينتقل إلى الرفيق الأعلى...
وأما الأستاذ (عبدالسلام سفر) عازف الناي الكبير فقد شارك الفرقة الموسيقية في احتفالاها بمهرجان انطلاقة (إذاعة الرياض)... وكان من بين أعماله التي لا تنسى أنه كان مشاركاً معي في برنامجي اليومي (تحية الإفطار) الذي بدأ بثه في الأول من شهر رمضان الذي انطلقت فيه (إذاعة الرياض)، والذي تضمّن فيما تضمن فقرات شعرية، كان يؤديها ويغنيها عليه رحمه الله بصوته، أو كان يرافق أبيات الشعر بمعزوفات من نايه الشجي العذب...
* * *
أطلت قارئي العزيز في الاستطراد فلا تؤاخذني وأعذرني إن شدّتني ذكريات افتتاح (إذاعة الرياض) إليها، وذكريات الأيام التي سبقت تلك المناسبة العزيزة الخالدة.... أيام شهري رجب وشعبان من عام ألف وثلاث مائة وأربعة وثمانين، حيث كانت اجتماعات التخطيط والتهيئة والاستعداد تتم بصورة يومية في مكتب الشيخ (جميل الحجيلان) وزير الإعلام وبرئاسة معاليه وتوجيهاته وحضور شاغلي الصف الأول من المسؤولين الذين ذكرتهم في مطلع هذا المقال بالإضافة إلى المذيعين الرئيسيين الذين سيتولون التنفيذ فيما بعد...
وبالمناسبة فإن الشيخ (جميل الحجيلان) كان يستعرض معنا برامج الأسابيع الأولى من تلك الفترة، ويتعرف على أهم المواد التي ستعرض، ويستمع إلى الألحان المميزة للبرامج ويتعرف على أسمائها ومددها الزمنية، والأشخاص المرشحين لتنفيذ تلك البرامج وقد يغير، أو يلغي، أو يعدل، أو يضيف إلى تلك المواد التي ستبث على الهواء، فهو - أي الشيخ جميل - يستحق بجدارة أن يكون (مراقباً عاماً للبرامج) أو (مديراً للإذاعة) أو (مديراً للتلفزيون)... ولهذا أخذ شهرته، وذاع صيته، وصار بحق وزيراً عبقرياً للإعلام!!!
على أن الأستاذ (محمد موسى المجددي) مدير الاستوديوهات يرحمه الله والذي سأتحدث عنه دون تأخير، يسرّه ولا شك التحدث عن تلك الفترة، والخوض في تلك المناسبة التي كان له فيها قصب السبق، والقدح المعلّى....
* * *
انتقل المهندس (محمد موسى المجددي) إلى رحمة الله والعام الميلادي السابق (2012) قد وضع أوزاره، عن عمر ناهز التاسعة والتسعين عاماً، بعدما أنهكه المرض.. وقد ماتت زوجته عليها رحمة الله قبل حوالي عشر سنوات، وانشغل أولاده بأسفارهم وشؤون حياتهم مع الأسف، فعاش سنواته الأخيرة يعاني من المرض والضعف والشيخوخة والوحدة، فلم يكن معه أحد بعد الله سبحانه وتعالى سوى خادم ومرافق (أفغاني)، وخادمة إندونيسية، يعينانه على تخطي دروب الحياة الصعبة التي عانى منها، وتكبد متاعبها ومشاقها....
وقد سخّر الله له في خضم تلك الصعوبات جاراً يسكن قريباً منه، هو أخونا الأستاذ (عبدالكريم محمود الخطيب)، فكان بارك الله فيه، وأمده بالصحة والعافية يتعهده بالزيارة، ويتفقده بالعناية والرعاية....
* * *
ولد المهندس (محمد موسى المجددي) في رحاب أسرة أفغانية كريمة تعود في جذورها على ما أعلم إلى الشيخ (أحمد الفاروقي السرهندي) المعروف بـ(مجدد الألف الهجري الثاني) والذي يعود في نسبه إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقد كان عالماً ربانياً مجاهداً يعرف الاستعمار البريطاني في وصلاته وجولاته، وكان مع ذلك داعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، فكان علماً من أعلام الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، وواحداً من أفذاذ الطريقة النقشبندية الصوفية التي اشتهرت فيما اشتهرت به، بالتزامها التام بالكتاب الكريم والسنة النبوية المطهرة....
أما والد المهندس (محمد موسى) فقد كان الشيخ (صادق المجددي)، وكان عالماً فاضلاً، وقد مثل بلاده (أفغانستان) في (مصر) و(المملكة) كسفير لها لسنوات كثيرة...
وقد اختير في الثمانينيات الهجرية ليكون عضواً في (المجلس التأسيسي لرابطة العالم الإسلامي).... وقد استقر في (المدينة المنورة) بعد تقاعده وبقي فيها إلى أن مات يرحمه الله...
* * *
وبحكم عمل أبيه سفيراً لبلاده في (مصر) سنوات كثيرة عاش المهندس (محمد موسى المجددي) هناك وعمل فترة في الإذاعة المصرية كمهندس صوت.. وعندما جاء السيد (محمد أنور السادات) رحمه الله يحمل بيانات الثورة في الثالث والعشرين من شهر تموز (يوليو) من عام ألف وتسع مائة واثنين وخمسين....
عندما جاء إلى مبنى (الإذاعة المصرية) كان مذيع الفترة المناوب في ذلك الوقت هو الأستاذ (فهمي عمر) أطال الله في عمره، ومتعه بتمام الصحة والعافية، وأما مهندس الصوت المناوب فقد كان (محمد موسى المجددي) يرحمه الله.... وقال (السادات) في ذلك الوقت وقبل أن يذيع تلك البيانات: لقد أصبحنا نحن الذين يحكمون هذه البلاد!!
* * *
لم يطل عمل (المجددي) رحمه الله بعد ذلك في الإذاعة المصرية، فقد عمل على إكمال دراساته الهندسية، وسافر إلى أمريكا من أجل ذلك، ثم توجه إلى المملكة، بعد أن حمل معه توصية من الشيخ (محمد سرور الصبان) صديق والده بأن يعمل في (الإذاعة السعودية).... وكان ذلك في عام ألف وتسع مائة وأربع وخمسين للميلاد.... وبعد عام واحد تقريباً كان للمهندس (المجددي) دور بارز في إنشاء استوديوهات (إذاعة جدة) الأولى والتي كانت في منطقة (الكندرة)...
* * *
في الشهور الأولى من عام ألف وثلاث مائة وثمانية وثمانين كلفت بالعمل (مشرفاً على البرامج) بإذاعة الرياض بعد أن طُلب من (المراقب العام للبرامج) أن يتمتع بإجازة، ثم سميت (مشرفاً على إذاعة الرياض)، ثم عُينت مديراً لها....
لقد كان عليّ عند تكليفي بالمسؤولية في هذا الموقع أن أواجه المشكلة الرئيسية القائمة وهي أن استوديوهات إذاعة الرياض المخصصة لتسجيل البرامج قد كثرت فيها الأعطال إلى درجة أصبح لا تسجل فيها إلا الأحاديث القصيرة فقط.... أما المقابلات الطويلة والبرامج التمثيلية والمسلسلات، فضلاً عن الأغاني والأناشيد، فلا يمكن تسجيلها وإنتاجها في تلك الاستوديوهات، وأصبحت (إذاعة الرياض) لهذا السبب تعيد إذاعة البرامج التي تأتيها من (إذاعة جدة).... وربما ولهذا السبب ولتأخر وصول إرساليات البرامج المسجلة من (جدة)، ولسوء التنسيق كنت تسمع الحلقة الواحدة من برنامج أسبوعي على سبيل المثال، كنت تسمعه لمرتين أو ثلاثة على مدار أسبوعين أو ثلاثة أسابيع.. أضف إلى ذلك فقد أحجم كثير من المتحدثين والكتاب ومعدي البرامج عن التعاون مع الإذاعة!!!....
* * *
إن مشكلة توقف الإنتاج في استوديوهات (إذاعة الرياض) التي واجهتني تحتاج في حلها إلى التفاهم والتعاون الكامل بيني كمشرف على البرامج وبين (مدير الاستوديوهات) في إذاعة الرياض المهندس (محمد موسى المجددي)، وكنت أعرف مسبقاً أن العلاقة بينه وبين المراقب العام السابق للبرامج ليست على ما يرام... وربما كان لتلك العلاقة غير الحسنة بينهما دور في توقف استوديوهات (إذاعة الرياض) عن الإنتاج، لكنني لم أضيع وقتي في معرفة أسباب سوء العلاقة بينهما، بل عملت على تحديد موعد عاجل لاجتماع يتم بيني وبين (مدير الاستوديوهات)... وقد تمّ ذلك الاجتماع، ولم يطل كثيراً، فقد أجابني المهندس (محمد موسى المجددي) يرحمه الله بأن استوديوهاتنا المعطلة يمكن إصلاحها، ويمكن أن تعود إلى العمل كما بدأت قبل أربعة سنوات خلال فترة قصيرة.... والأمر يحتاج إلى تأمين بعض قطع الغيار التي سأطلبها على الفور.... وأن استوديوهاتنا ستعود إلى الإنتاج الإذاعي الكامل خلال مدة لا تزيد عن ثلاثة أسابيع!!
قلت له: بشّرك الله بالخير، وبارك الله فيك، وأحسن الله إليك....
وصدق المهندس (محمد موسى المجددي) فيما قال، وعادت الاستوديوهات إلى العمل خلال المدة التي حددها، وازداد النشاط والحركة والإنتاج في (إذاعة الرياض)... وخلال ثلاثة أشهر أو أقل من ذلك تساوت (إذاعة الرياض) في إنتاجها للبرامج المشتركة مع (إذاعة جدة) ذات الاستوديوهات الثمانية الحديثة في مبانيها الجديدة، فضلاً عن أن (إذاعة جدة) تكبر (إذاعة الرياض) بأكثر من عشر سنوات!! فهي أغنى وأكثر بكوادرها البشرية والمتعاونين معها...
* * *
ومن الإنجازات المهمة التي تذكر للمهندس (محمد موسى المجددي) رحمه الله في (إذاعة الرياض) إقامة الأستوديو رقم (5) في الدور الأرضي من مبنى الإذاعة، فقد تم بإشرافه ومتابعته، وقد كان الأستوديو الأكبر في هذا المبنى وقد سجلت فيه البرامج الإذاعية الكبيرة والتي يشارك بها عدد غير قليل من الناس، فضلاً عن الأناشيد والأغاني التي تؤديها أو تشارك بها الفرق الموسيقية...
ومن الأمور التي تذكر لـ(المجددي) رحمه الله أنه أمّن (لإذاعة الرياض) ثلاث عشرة تلاوة قرآنية كريمة نادرة بصوت الشيخ (محمد رفعت) عليه رحمات الله القارئ المقري المصري الشهير... فكانت هذه القراءات القرآنية الكريمة محل اعتزاز وافتخار كل من علم بها أو استمع إليها....
* * *
كان (المجددي) رحمه الله يحب أسرته، ويعتز بأبيه وأهله... يحب أولاده كثيراً ويسعى بكل ما أوتي من طاقات وإمكانات إلى دفعهم إلى ميادين التقدم والخير....
حدثني أن أخاً له كان اسمه (هارون)... كان ناشطاً في مجال العمل الإسلامي... كان يردد أسمه كثيراً وكان يعتبره مثله الأعلى في الصدق، والعمل المجدي المتواصل والتضحية والتقوى والصلاح....
* * *
ذات يوم من عام ألف وثلاث مائة وخمسة وثمانين، بعد افتتاح (إذاعة الرياض) بعدة شهور دعاناً المهندس (محمد موسى المجددي)، وكنا حوالي عشرة من المتعاقدين السوريين والأردنيين واللبنانيين والفلسطينيين إلى عشاء في منزله الذي كان في منطقة (المقيبرة)..... كانت الليلة ليلة جمعة... وكانت السيدة (أم كلثوم) عليها رحمة الله تغني قصيدة (أبي فراس الحمداني) (أراك عصيّ الدمع).... استمعنا إليها، ثم تحدثنا كثيراً، وضحكنا كثيراً... ثم تشعب الحديث والحوار إلى أن يقول كل واحد منا ما هو الوقت الذي سيمضيه في العمل في المملكة.... وكانت إجابات الجميع تتراوح بين منتظر لانتهاء عقده بعد شهور.... وآخر بعد سنة... وثالث بعد سنتين.... وقد عللوا بقاءهم القصير في هذه البلاد بشدة الحّر، وضيق العلاقات الاجتماعية، والبعد عن الأهل والأقارب والجيران....
وحينما جاء دوري لأقول كلمتي في هذه المسألة وكنت أصغر الحاضرين سناً... قلت: أنا أنوي البقاء لمدة خمس سنين إن شاء الله.... فتعجب الحاضرون، وقطبوا حواجبهم وقال بعضهم: أعانك الله.... فقلت: لا تتعجلوا، فأنا أعرف سلفاً وأنتم تعرفون كذلك أن هذه البلاد ذات طقس حار، وأن العمل فيها سيبعد الإنسان عن أهله وجيرانه وأقاربه.... كل ذلك وغيره من الأمور المعروفة سلفاً.... ولكن هذا البلد بلد عربي بل هو أصل العروبة، وهو بلد مسلم، بل هو البلد الذي تتجه إليه أنظار المسلمين وقلوبهم في كل صلاة من صلواتهم، وهو البلد الذي يحتضن خاتم الأنبياء والمرسلين عليه الصلاة والسلام.... وهو البلد الذي انطلقت منه جحافل الفتوح إلى أرجاء الأرض، تبشر بالعدالة والمساواة والحرية لكل بني الإنسان....
وسنحت مني التفاتة إلى وجوه الحاضرين، فألفيتهم مستمعين بإصغاء، مطرقين باهتمام.... ولم يقطع حديثنا إلاّ دعوة صاحب الدعوة (محمد موسى المجددي) يرحمه الله، الذي نبهنا إلى أن العشاء جاهز منذ أكثر من نصف ساعة، وأن من يرغب في غسل يديه استعداداً لتناول الطعام، فالمكان مهيأ ومتاح.....
وفي صباح يوم السبت التالي التقيت الأخ (المجددي) رحمه الله وقال لي: لقد أثبتت أنت بكلامك الذي قلته للمجتمعين في بيتي بأنك أكبرهم عقلاً وفهماً للحياة.... رغم أنك أصغرهم سناً!!
* * *
ويبتعد عنا هذا العشاء الساهر في بيت أخينا (محمد موسى المجددي) رحمه الله حوالي خمسين عاماً.... أي أن الله سبحانه وتعالى وهو الحكيم الخبير القدير، أراد للسنوات التي كنت أتوقعها، أن تتضاعف أضعافاً مضاعفة، فأصبحت ممن يتشرفون بالتمتع برعوية هذه البلاد العربية الإسلامية، وأن أصبح جزءاً لا يتجزأ من هذه الأرض المباركة الطيبة، وأن يصبح أبناؤها أهلي وإخواني وخلاني، وتسكن بصحاريها وشواطئها وجبالها وكل مرابعها، أن تسكن قلبي وروحي ووجداني.
* * *
وارتحل (المجددي) عليه شآبيب رحمات الله، عن دنيانا الفانية، وقد عاش فيها قرناً من الزمان بطوله وعرضه....
ارتحل بعيداً عن أهله الذين مات بعضهم قبله، وانشغل البعض الآخر بأسفاره وشؤونه المختلفة....
ارتحل (المجددي) بعيداً عن الأضواء بعدما كان في يوم من الأيام نجماً ساطعاً من نجوم الإذاعة، وبخاصة (إذاعة الرياض) في السنوات الأولى من حياتها... وحتى هذه الإذاعة التي أصبحت الآن والحمد لله ملء الأسماع والأبصار، ووصل صوتها وصيتها إلى كل أرجاء العالم.... نسيت أو تناست سنواتها الأولى.... أيام (شارع الفرزدق).... نسيت المهندس (محمد موسى المجددي)!!!
ارتحل (المجددي) راضياً مرضياً إلى ربه بإذن الله، وقد شيعه وشهد دفنه عدد قليل من الناس، كان في طليعتهم (خادمه الأفغاني) الذي رافقه في سنوات المرض الأخيرة من حياته... وجاره الوفي الأمين... عبدالكريم محمود الخطيب أطال الله عمره، ومتعه بالصحة والسعادة والمسرات....
z.aiayoubi@hotmail.com
24-3-1434هـ
-الرياض