(أ)
ما هو المصطلح؟ ما هي ارتباطاته باللغة والفكر؟ وأيّ تعارضٍ بين دلالة اللفظة اللغويّة «صُلح» وبين دلالته الاصطلاحيّة التي هي على النقيض، حيث إنّ المصطلحَ ظاهرٌ في محلّ الخلاف والاختلاف الفكريّ؟ ولئن كان طموح الفاعل الاصطلاحي بوصفه ناطقاً جدليّاً يسعى إلى ضبط (المفردة-الفكرة) محلّ الإشكال والجدل بعد انتقالها من مدى اللغة المفتوح السلميّ إلى فضاء المصطلح العلائقي-الارتباطي ذي الصراع الجدلي، فإنّ هذا الطموح لا يرقى إلى فاعليّة الصدق والوجود لأنّ ضبط الاصطلاح بإقصاء رأي دون آخر ليس من طبيعة الصراع الجدلي للفكر، ولا يكون إلاّ عبر القوّة؛ أيْ استبداد الناطق الجدلي بالاصطلاح لفرض ضبطه وإقصائه، وبذلك يتراجع المصطلح من كونه جدليّاً، ويعود إلى مدى اللغة حيث سلميّة المعاني مع الألفاظ دون صراع علائقي.
لذلك فإنّ الادعاء بأنّ المصطلح هو تثبيت تعريف وإقصاء آخر، إنّما هو جزء من الجدل وليس طبيعة في فضاء المصطلحات؛ لأنّ الفضاء العلائقي للمصطلح يتفاعل على عكس مدلول جذر كلمته اللغويّة السلمية (صلح): أيّ أنها دلالة اختلاف وليست دلالة اتّفاق في المعنى، وإن كان طموح الناطق الجدليّ بالمصطلح الاتّفاق، إلاّ إنّ علّة وجوده الاختلاف.
ولمزيد من فهم طبيعة عمل المصطلح الجدليّ، أفرّق في البدء بين: (اللغة والمصطلح)، معتمداً على تفريق الأستاذة سهام القحطاني بين (المدى والفضاء) في موضوع: (عودة شهرزاد والحكاية الأخيرة؛ الثقافيّة،عدد:397)؛ لأنّ اللغة مداها المفردات والألفاظ، بينما المصطلح فضاء جدليّ من الأفكار والمواضيع. فليس كلّ مفردّة في اللغة يُقابلها مصطلح، بينما يمكن القول أنّ كلّ مصطلح جذره مفردّة انتقلت من مدى اللغة إلى فضاء المصطلح الارتباطي، وهو ما جعلها محلّ اختلاف وجدل، ومحلّ طموحٍ بالنسبة للناطقين الجدليين لمصالحة ائتلافيّة عبر ثقافة القوّة أو ثقافة التوافق.
يتشكّل فضاء المصطلح الجدلي من ارتباطات وتفاعلات بين دلالات عدّة: (دلالة النشوء، دلالة الشيوع، دلالة الإبدال والتوليف/التهجين، دلالة الفاعل والنيّة)؛ وهذه الأخيرة لا يمكن السيطرة عليها، بحيث إنّك لا يمكنك محاصرة ما يحمله الناطق الجدلي من تصوّرات حول المصطلح وإلاّ أخرجته من فضاء الجدل؛ وأقصد بدلالة الفاعل والنيّة: أنّها الدلالة التي يحملها الناطق الجدليّ، وهي متقلّبة تحت تأثيرات المخزون المعرفيّ والضرورة الفعليّة في علاقة الناطق بها بالأشياء والأفعال والأفكار. وهو المعنى المضمور في نيّة الناطق الجدلي، والمتعارض مع مدلول المصطلح عند نشأته، ولا يُدرك إلاّ بتفكيكه أو بعد ظهور الإشكال والجدل؛ فإن لم يظهر الإشكال بقيت دلالة النيّة (مضمرة) إلى أن يظهر إشكال دلالة (المفردة) بين المتكلّم والمستمع، لذلك فإنّ فاعلَ الدلالة في (مدى اللغة) وقفٌ عند المتكلّم، بينما فاعل الدلالة في فضاء المصطلح العلائقي مُشْرَعٌ بين ناطق جدليّ، وناطقين جدليّين آخرين.
(ب)
تقول العربُ: (الشيءُ عند اصطلاح أهل الاختصاص ما دلّ على كذا وكذا)؛ وهذا دأبهم يفصلون بين دلالة اللفظ، ودلالة ما (اصطُلحَ عليه)، ولسنا في معرض مناقشة هل تمّ الاصطلاح على الغلبة والشيوع، أو على الافتراء والانتقاء، وأيّاً يكن، فإنّنا لا نطمئنّ إلى خاصيّة (الاتّفاق القطعي) لأنّ الخلافَ والاختلافَ هما موجدا المصطلح، فبدلاً من قولهم: (اخْتُلِفَ على) ذهبوا إلى (اصطُلِحَ على)، بما يشي بتعدّدية الأطراف الناطقة، وأخرى باحثة عن ضبطٍ توافقيّ أو تلفيقيّ، أو أنّ هناك من يدّعي بالقوّة (ما اصطُلح عليه) لأجل أن يفرض ثقافته على الأفرقاء فيما (اخْتَلَفوا عليه)؛ وهذه القوّة ليست حصراً على شكلٍّ ماديٍّ، بل تأخذ شكلاً معرفيّاً وعلميّاً.
ولذلك نجد أنّ تاريخيّة الاصطلاح العربي مرهون بأهل الاختصاص، ولذلك يفرّقون في اللغة: بقولهم: اصطلاح النحويين، اصطلاح الأطباء، اصطلاح الفقهاء؛ أو كما يقول الراحل العلامة عبدالله العلايلي في مقدّمته لدرس العرب-1938: (اللغةُ للأمّة جميعاً، والاصطلاحُ لذوي اعتباره)، وهو قولٌ لا نطعن فيه، لكنّ مفهوم ذوي الاعتبار والاختصاص لم يعد حصراً على أهله، نظراً للعلاقة العكسيّة بين مفهوم الندرة ومفهوم الوفرة، إذ إنّ مشاعيّات المعرفة والفكر قلّصت من حجر المعرفة على المختصّين؛ لذلك فإنّ تقلّص الهُوّة بين المختصّين والعامّة يزاحم الفضاء العلائقي للمصطلح لزيادة الناطقين الجدليين وتعدّد مراجعهم ومصادرهم (ونواياهم)، ممَّ يعني أنّ مفهوم العامّة أيضاً ودلالته تغيّرا مضموناً وشكلاً.
(ج)
يفصح تفكيك المصطلح عن خصائصه المتحوّلة والمتقلّبة أيضاً، تأثّراً بالعوامل العلميّة والمعرفيّة وازدياد الناطقين الجدليين؛ وخاصيّة المرونة -على الرغم من طبيعته الوظيفيّة- إلاّ أنّه سرعان ما يفلت من قيود الوظيفة بالانقاض على وظائف أخرى محيطة به، تحت تأثير فاعليّة مكينة الخاصية الارتباطيّة؛ فمصطلح الحداثة مثلاً، وأيّاً تعدّدت تعاريفه، تحوّل تلقائيّاً عند ظهور مصطلح (مابعد الحداثة)، هكذا يتحوّل المصطلح بأثر رجعي لظهور اصطلاح يرتبط به ويجادله فكريّاً وثقافيّاً، فلئن كان عند نشوئه مرتبطاً بالعلم ومُعارضاً للقديم، فإنّه بعد ظهور المصطلح المتأخّر عليه لم يفلت من تأثيراته، بل وإعادة تداوله في فضاء المصطلح بماهيّة مختلفة عن ذي قبل.
يعمل المصطلح وظيفيّاً في الفضاء العام والخاص للمفردة محلّ الجدل، التي يتعدّ كونها مجرّد مفردة ذات دلالة ومعنى إلى منظومة من الأفكار والأفعال والتأثيرات والمؤثّرات؛ أيْ أنّ انتقال المفردة من مدى اللغة إلى فضاء المصطلح لا يتمّ إلاّ بتحويل المفردة من إفراديّتها إلى منظومة فكريّة؛ فمفردة كالثقافة مثلاً: لن نجد لتعريفها مشقّة في معجم اللغة، حيث وجودها في المدى الساكن، بينما (مفردة الثقافة) في فضاء المصطلح لا يكفيها مجلّدات عديدة لتلمّ صراع الناطقين الجدليين في فضاء الثقافة العلائقي؛ وهنا لا يكون الاصطلاح مجرّد وسيلة أو غاية لذوي الاختصاص، بقدر ما يكون ضرورة فضائيّة لاصطراع الجدل الفكريّ للمفردة المنقولة من المدى السلمي إلى الفضاء الجدلي؛ فإنّ مفردات: كالدين، السياسة، المجتمع، الإصلاح، التسامح، العقل، التاريخ إن وجدت تعاريفها اتّفاقاً على مستوى اللغة-المدى، فإنّ تعاريفها محلّ إشكال في فضاء المصطلح العلائقي-الارتباطي، فهي ساكنة ومحايدة في مداها المعجميّ اللغويّ، بينما هي في فضاء المصطلح ذات صراع وحراك جدليّ؛ فإنّ كانت الألفاظ خدم المعاني على قول الجرجاني، فإنّنا نقول هنا: إن المصطلحات خدمُ الفكر والجدل.
فما هو المصطلح إذاً؟ هو رأيٌّ جدليّ (مختلف عليه) ذو دلالات متعدّدة ذات ارتباط تحوّل المفردة من حالة سكون إلى حالة جدليّة كعنوان فكريّ؛ وأيّ اتفاقٍ نهائيّ على هذا الرأي تسحبه من الفضاء الجدلي العلائقي وتسكنه في مدى اللغة.
فعلى قدر ما يكون الفضاء الذي تعمل فيه المصطلحات إشكاليّاً وجدليّاً قدر ما تكون مصطلحاته متشعّبة ومحلّ اختلاف وخلاف لأنها انعكاس لمواقف وآراء، تتضمّن دلالة الفاعل والنوايا، وليس اختلافاً تحمله اللفظة عينها، فإن كانت اللغةُ لغةً فإنّ المصطلحَ لغةٌ ورأيٌ وموقفٌ؛ والعكس إن تضاءلت الجدليّة في فضاء المصطلح فإنّ مخرجاته أكثر توافقاً بين مجموعة المستفيدين من ورائه، لذلك لا نتوقّع أن نجد خلافا واختلافا على الدرجة نفسها من التعقيد حينما نقارن مصطلحات في فضاء (الطب أو العسكريّة) وهي أقرب إلى المعجم المتخصّص من كونها فضاء إشكالي، عن مصطلحات في فضاء (الثقافة والمجتمع) فطبيعة الفضاء الجدل وإشكاليّاته معكوسة في مصطلحاته.
وأخشى أن يُفهم من موضوعي الشكّ في جدوى المصطلح ، نظراً لفقدانه القدرة على الحدّ من الصراع الاصطلاحي، وفقدانه القدرة على توحيد تعدّد الدلالات للمصطلح، وهذا ما لا يتوافق مع (نيّة الفاعل-الكاتب) لأنّني لا أرى ذلك من وظيفة المصطلح على الرغم أنّه يوحي بذلك، فليس من طبيعة المصطلح أنّ يُقصي الدلالات ذات الارتباطات العلائقيّة في فضائه، بقدر ما هو الفضاء الذي يسمح لهذه الارتباطات أن تبني فيما بينها جدلاً تداوليّاً وعلائقيّاً، يُخرج من الأفكار ما يخدم الفضاء ذاته والمنتفعين من ورائه. هكذا يكون المصطلح في الوقت عينه غايةً ووسيلةً؛ غايةٌ لأنّه الفضاءُ الذي يتخلّقُ فيه الجدل، ولأنّه مُنشئُ الآراء وموجدُ المواقف، ووسيلةٌ لأنّه جدليّة تخدم الناطق الجدلي في قوّة حضوره وضرورة نواياه.
Yaser.hejazi@gmail.com
- جدة