برفيسور في إحدى الجامعات الأمريكية من أصل يهودي نشأ في بيئة يهودية محافظة ثم لما كبر ألحد وكفر بكل إيمانه ويهوديته.. يقص حكايته في مشروعه العلمي الذي تحدث فيه عن «العلمانية المقدسة» بعد عدة عقود من الإلحاد قرأ فيها مئات الكتب والبحوث حول ذلك بما فيها مؤخراً كتابات التيار الإلحادي المتطرف في أمريكا والمسمى بتيار «الإلحاد الجديد New Atheism» من مثل ريتشارد دوكينز وسام هاريس وكريستوفر هيتشنز وغيرهم وقدم نقداً حاداً لما أسميه بالإيدلوجيا الإلحادية، ثم انتهى إلى تقديم نموذج ملطف للعلمانية؛ طبعة تتصالح مع الدين وتفتح الباب للقيم الدينية ليس فقط كخيار شخصي خاص بل حتى في المجال العام «public sphere» في ضمن نشاط ثقافي يشكل قيم الناس في المجتمع مادام هذا النشاط الديني بشكل عام لا يتعدى على الحدود الشخصية والفردية ومفهوم الحرية.
صاحبنا البروفيسور هذا قرر أن يربي أبناءه على معرفة الحياة والكدح والعمل لأجل الدنيا وحدها وعدم الاعتراف بدين أو بقيم روحية مطلقة أو حتى بإله، ولاحظ أن هذه الأجيال التي تربت على يديه بدأت تفقد معنى القيم الثابتة بل وحتى الأخلاق الثابتة في سديم مخيف من النسبية وفي سراب كثيف فكل شيء ممكن متاح إلا إذا منعك منه القانون فقط فليس هناك أخلاق ولذلك بدأت هذه الأجيال ترد معروفه بشكل سلبي وتتنكر له فهذا التنكر جزء من تلك «الأخلاق» إذا صح أن يكون هناك أخلاق على الإطلاق في هذا السديم النسبي، ولاحظ هذا الفراغ الروحي وفقدان «العمق» كما يسميه فقرر أن يذهب لمعبد يهودي يستمع فيها للأغنيات الدينية ليسترد شيئاً من تلك الحياة الغزيرة كما يصفها يوم كان مؤمناً إلا أنه وجد أن تمثيل دور المؤمن في معبد ديني لايجعلك مؤمناً حقاً ولايصلك بتلك النتيجة والشعور الذي يصله المؤمنون حقاً في صلواتهم ودينهم.
هذه التجربة قادته لشيئين: الأول: أن العمق والغزارة في الحياة لا يمكن أن تكون إلا بقيم عليا دينية ثابتة وخالدة وأن هذه القيم لا بد منها في أي مجتمع لكي يكون «غزيراً وعميقاً» كمايصف، والثاني: أن تمثيل دور المؤمن ومحاكاته لا تصل لنفس النتيجة إذا لم يكن هذا الإنسان مؤمناً بالفعل ومصدقاً بهذا الدين وقيمه الروحية، ولأجل كل هذا قرر أن يعيد التوازن لنفسه وأن يحاول ذلك في مجتمعه القريب والكبير.. وبقي هو في نفسه ملحداً لكنه مؤمن بشيء ما كما يقول شيء يريده أن يكون أكبر من أن يتصور ولكنه ليس كما تصفه كتبهم المقدسة.
وبعد تجربة الإلحاد الطويلة والمعقدة, رأى هذا البروفيسور أنه لم يعد بإمكانه العودة بالفعل للإيمان وأنه لا يستطيع أن يكون مؤمناً فهو غير مصدق بالتوراة والكتب المقدسة ولا يستطيع أن يؤدي دور المؤمن حين أن هذا التمثيل لا ينطلي على الدين حسب وصفه. لذلك كتب مشروعه حول تعديل العلمانية الموجودة في أكثر من بلد علماني ديمقراطي وبالخصوص في أمريكا من علمانية محايدة تجاه الدين إلى علمانية متصالحة معه، حيث يرى أن القيم الثقافية والأخلاقية الكبرى التي تعدل مشاكل السياسية والسوق والاقتصاد والعلم تكمن في الاستعانة بتلك القيم الروحية التي يقدمها الدين إلى جوار المنجزات الحياتية العلمانية.
حكاية هذه التجربة هي بغرض تقديم هذه الخبرة العلمية لأستاذ جامعي كبير ومؤلف في مجال الفكر والسياسة يغبط طلابه المؤمنين ويقول إنه يتمنى أن يكون كذلك ولكنه لا يستطيع، فإذا بدأ درس الصباح جلب معه مسجله الصغير وأسمع طلابه بعضاً من تلك الأناشيد الدينية التي كان يحفظها ثم يتغنى بها مستلهماً أغنية «ليونارد كوهن» اليهودي الآخر الذي ألحد ولكنه بقي يترنح متذكراً تلك الأحاسيس الدينية العظيمة التي يحب. المغني كوهن هذا على إلحاده قدم واحدة من أشهر الأغاني التي استلهمت روحاً وكلمات دينية وبدأ يعنيها حتى المتدينين في كنائسهم ومعابدهم.. وترنح (كوهين) بين الإلحاد والدين في أغنية «هالوليا hallelujah» التي يقول في جزء منها إذا صحت ترجمته: «إيمانك كان قوياً، ولكنك كنت تريد الدليل.. لقد رأيتَها تسبح حول السقف.. وجمالها والقمر يغمرانك.. وهي تربطك بكرسي في المطبخ.. وترسم الكلمات على شفتيك رغماً عنك قائلةً: (هالالويا..الشكر لله)».
لقد كان صاحبنا البروفيسور يجد في هذا المغني الشهير «ليونارد كوهين» شخصه الذي يغني للدين ولكنه لا يتبناه.. ويتمناه ولا يجده، ويرى أن الوجود يتحول لسطحي دنيوي سريع قاتل باهت من دون دين ولا أخلاق روحية خالدة ثابتة مطلقة.. لذلك كان يتكئ على كرسيه ويغمض عينيه أمام طلابه قائلاً: يجب على هذه الحياة أن تهبط قليلاً.. وأن تسكن وتهدأ وتخف.. ولا يمكن أن يحصل كل هذا العمق الروحي والسكينة إلا بالدين وبالله -سبحانه وتعالى-.
لقد كان يبحث هذا البروفيسور «ليدويتس» عن الحياة الطيبة التي يصفها بالغزيرة والعميقة وأوصاف أخرى.. تلك التي يرى بعد تجربة موجعة أنها لا تتحقق إلا بالله والإيمان، وهذا ما تقوله الآية الكريمة: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} (97) سورة النحل، هذه الحياة الطيبة الغزيرة العميقة التي يحققها الإيمان.
abdalodah@gmail.com
- الولايات المتحدة