Culture Magazine Thursday  28/02/2013 G Issue 398
فضاءات
الخميس 18 ,ربيع الثاني 1434   العدد  398
 
يا غريباً كن أديباً
بثينة الإبراهيم

 

* منذ عامين ثقريباً، تلقّيتُ هديةً فريدةً من نوعها، فقد كانت تقويماً «أو ما يُعرف عند العامة بالروزنامة»، وفي كل يومٍ منها صورة، لكن الطريف أن تلك لم تكن بالصور العادية، فقد كانت صوراً لما يكتبه أو يرسمه المارة على الجدران، فصارت لهم وسيلةً للتعبير والتنفيس والترويح عن عابري الطريق أيضا! والأمر ليس بغريبٍ عن مجتمعاتنا العربية، فقد كانت الجدران أيضاً لوحاً يكتب عليه عاشقو الرياضة مثلاً وصارت في أيام «الربيع العربي» محلاً لاحتجاجات الثوار ومطالبهم وهتافاتهم للبلد.

* لا يخرج كتاب «أدب الغرباء» لأبي الفرج الأصفهاني تحقيق د. صلاح الدين المنجد عن نسخةٍ نادرة من هذا كلّه إذ يذكر في مقدمته أنه جمع في كتابه أخبار من قال شعراً في غربة «فكتب بما لقي على الجدران، وباح بسرّه في كل حانةٍ وبستانٍ، إذ كان ذلك قد صار عادة الغرباء في كل بلدٍ ومقصد، وعلامةٌ بينهم في كل محضرٍ ومشهد..».

* هي إذاً سنّةٌ استنها الأولون في الكتابة على الجدران لبث الأنس في نفس الغريب عابر السبيل، فيجد فيها ما قد يسلّيه وينسيه همّه إن وجد أن غيره لاقى مثلما لاقى هو، أليس «كل غريبِ للغريب نسيب»، ويصير هذا الأدب أحباناً حواراً بين كتّاب الأبيات دون أن يتلاقوا فيجيز أحدهم قول الآخر أو يجبيه دون أن يلقاه وجهاً لوجه، بل حائطاً لحائط، ويتشكّل ما يمكن تسميته بالكتابة على الكتابة!

* يغدو الجدار إذاً كتاب الغريب - إن صحّت العبارة - وكلّما مرّ عابرٌ ترك منه ذكرى لعله يكسب ذكراً فكأنما هي رغبة بالخلود، برغم أن من خطّ هذه العبارات مجهول غالباً، وبذا تحقّقت غربته زماناً ومكاناً وهويّة، كما في الخبر الذي أورده الأصفهاني عن أبي محمد حمزة بن القاسم «إنه قرأ في بعض سياحته على صخرةٍ:

وكل البلادِ بلادُ الفتى

وليس لأرضٍ إليه نسبْ

قال: فقلتُ لا يموت صاحبُ هذا البيت إلا غريباً».

* لا تقتصر هذه الأبيات «المتروكة جانباً» على الشكوى من الغربة، بل قد تتعدّاها إلى الحكمة والموعظة الحسنة التي يمكن للعابر أن يتزوّد بها فلا يقع في الخطأ الذي وقع فيه سلفه، وقد نجد بينها رثائياتٍ تصلح للكتابة على شواهد القبور، أما الطريف فيها أن تكون إعلاناً من عاشقٍ لطلب المساعدة من العابرين ليستدلّ على الحبيبة الغائبة أو التي فرقته عنها الأيام! ومن الطرافة أيضاً أن شكوى المترفين المنعّمين تختلف في أسلوبها عن شكوى عابري السبيل، فهذه عليّة أخت الرشيد أرادت أن تشكو لأخيها ما تلاقيه من غربةٍ في الرّيّ كتبت له بعض الأبيات على الفساطيط فلما قرأها ردها إلى العراق.

* كانت الجدران، وما تزال إلى حدٍ بعيد، شكلاً من أشكال التأريخ غير الرسمي يكتبه أناسٌ مجهولو الهوية، وربما كان هذا هو التاريخ الحقيقي إذ يكشف ما لا تذكره الكتب الرسمية وسيكون تاريخاً للأحداث التي غيّرت الحياة دون أن تُكتشف كما يرى عبد الرحمن منيف، لأولئك المغمورين الذين يغضّ التاريخ عنهم الطرفَ غافلاً أو متغافلاً، فطوبى للغرباء!

- القاهرة

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة