رغم ما ينطوي عليه من عقلية فقهية جبارة إلا أن الإمام أبا حنيفة النعمان بن ثابت لا يحظى بما يستحقه من حضور تبجيلي وخصوصاً في بعض الأوساط التي ترَسّب في وجدان ثلة من أفرادها أن أبا حنيفة -وهو الإمام الذي أسس لمعالم الفقه الافتراضي- يستقي معطياته الفقهية انطلاقا من (تعمُّد) استدبار النص لصالح الرأي ولذلك فأحكامه الفقهية -بناء على هذا التصور- لا تحظى بالموضوعية اللازمة التي تؤهلها للاستقطاب!.. هذا التصور ينطبع في الأذهان عن الإمام أبي حنيفة الذي قال عنه إمامنا الشافعي شيخ إمامنا أحمد بن حنبل -رحمه الله- :»ما رأيت أحداً أفقه من أبي حنيفة.. وقال عنه: «الناس عيال على أبي حنيفة في الفقه»
نعم, الإمام أبو حنيفة هو الرائد الذي دشن لانبعاث العقل واشتغل على التأسيس لمدرسة الرأي وأبدى عناية ملحوظة بالفقه التقديري كضرب من الاستشراف المستقبلي الذي يفترض استصحابه استجابة لمقتضيات الصيرورة وترقباً لما قد يستجد من معطيات العصور ولما قد تمليه أولويات اللحظة المرحلية التي تتولد باستمرار.
إن أبا حنيفة حينما أعلى من قيمة القياس وعمق من منهجية النظر العقلي قد لاقى في سبيل ذلك ألواناً من التجاوزات الشتائمية، وطالته قالة السوء ونالت منه الوشاية واختلق عليه ما هو بضده خليق, ورُمي بما هو جدير بنقيضه وقُوّل ما لم يقل كما في تلبيسه تهمة الإرجاء المطلق مع أن محض الإرجاء لا الإرجاء المحض هو الذي تصح نسبته إليه. إنها كارثة أن يتجاسر جاهل لم تنبت أسنانه بعد في طلب العلوم الشرعية فيصف أقوال أبي حنيفة بالشذوذ! هكذا بكلمة عابرة أو بجرة قلم يتطاول غرّ لايزال يحبو على ركبتيه في طريق المعرفة الطويل على قامة سامقة كقامة أبي حنيفة بحجة أن أبا حنيفة يقصي النص لصالح العقل مع أن الإطار المرجعي الأول الذي يحتكم إليه أبو حنيفة ويدور في فلكه هو ما صح عنده ووصله من النص بضربية: الظاهر والباطن, وهو حينما يعمق النظر ويعلي من وتيرة حضور العقل فإنه لا يصدر في استنباطاته ولطائفة وما يورده من نكت فقهية عن ذلك العقل التائه المنفلت الثائر على سلطة النص والمصادر لقيمه المطلقة وإنما يصدر عن ذلك العقل المنضبط بالشرط التأويلي المتاح والذي عزز من فرص التجاوز الإبداعي عند هذا الإمام فرفض الانكفاء ولفَظَ العزلة وتحاشى الالتياث بخطيئة التقليد المجرد وتفتق ذهنه عن فهو مات من ضرْبِها نادرة.
وبيت القصيد هو أنه كان للنص -ولا غرو- القدح المعلى في فقهيات أبي حنيفة وهو لا يخالفه إلا حينما لا يتناهى إلى مسمعه هذا النص أو حينما يساوره اعتقاد بنسخه أو بمعارضته لما هو أولى منه بشرائط القبول فهو قد تشدد في قبول الأحاديث تعظيماً لجنابها المقدس في ظل ظرف ثقافي شاع فيه أرباب الوضع ومحترفي صناعة المعطيات النصية المختلقة!.
Abdalla_2015@hotmail.com
- بريدة