في العالم الذي لا تعيش فيه بيوتنا، لا يملك الأب حق قتل أبنائه، لا تملك الأم حق احتواء أبنائها إذا ما أساءت لهم، هنالك حيث لا نعيش نحن ويعيشون هم، الإنسان صغيرا وكبيرا أقدس من كل العلاقات وكل الروابط، العائلة قيمة تخضع للتقييم والتقويم، والوالدان أولياء لا أرباب، عليهم التربية والاحتواء، وليس لهم الحكم والسلطة، هنالك لا هنا، يعيش الأطفال تحت ظل القانون وأمنه، لا تحت سقف الأباء وأهوائهم بين الجنة والنار.
أما هنا، فنحن نسوق أبنائنا إلى القبور باسم الإصلاح والخلاص من الخطيئة حيناً وحيناً بدون أسماء، نسوقهم بختم أبوي ماجدٌ وهُمْام، تطفئ عيون الطفلة بالتراب ويسكن جسدها الصغير قبر كبير، فيزكى الأب قاتلا مع مرتبة الشرف وحسن قصاص الفضيلة، نحن هنا نحرم القتل في كل مكان ولا نشرعه إلا في البيوت، نجرمه في الشوارع ونباركه في بيوتنا، نحن مجتمع يساءل الخادم الغريب ويقتص منه إذا أساء التزام آدابنا، نحاكم العاملة المغتربة إذا أخطأت بدروها مع أطفالنا، لا لأننا نخاف أن يمرض الأبناء أو تتعب قلوبهم، ولا لأننا نخشى عليهم الخوف و الموت، بل لنحفظ لأنفسنا حق إفنائهم، فنحن وحدنا نجوز الدعاء على أبنائنا ونلعن المأممين وراء الدعاء، نحن الأرباب لا الآباء.
في مجتمعنا نحرم الإجهاض وكل ضرورات تحديد النسل، نحرم إفناء النطفات في الأرحام واستزراعها إذا مرضت، لكننا نحلل زهق الأرواح التي ولدت وعاشت، ونبيح سفك الدماء إذا انتصبت قامة الأطفال، نحن الفضيلة التي تخاف على أبنائها من نظرات الغرباء، وتبارك هتك حرمتهم على أيادي القريب النسيب، نحن الحرية التي توحد الله ولا تشرك في الإلوهية سواه، لأنها الحرية التي تستعبد الأبناء في بيوتها، نحن الذين نرفع الآباء على عروش الربوبية، فآباؤنا أربابنا الذين يحكمون أعمارنا، يبصمون شهادة ميلادنا، فمن لم يبصم له أبوه فهو لم يوجد بعد، آباؤنا الأرباب الذين يقسمون ويطرحون من كلماتنا، درجة أصواتنا، عمق نظراتنا، علو قاماتنا، وزاوية انحناءتنا، آباؤنا الذين يسطون على أقدارنا ويرسمون لنا خطوط العمر أين تبدأ وأين تتعثر، متى تتسع وكيف تضيق، وأيان تنقطع.
هنالك في عالم لا نعيشه ويعيشون هم فيه، العائلة ليست هوية، والاسم الأول يغني عن الثاني، وحلم الطفولة يقف عند خيار المراهقة، وخطأ المراهقة يتصوب في قدرة العشرين، كلها ملك صاحبها الإنسان، وحده يملكها، لكننا هنا لا تكفي أسماؤنا لتقدمنا لا للمدرسة ولا للصديق ولا للحب، تظل أسماؤنا عالقة بسلاسل الأسماء التي تلحق بها كقيد متعدد الحلقات.
طفولتنا لا تنظفئ لأن مراهقاتنا أشعلت شموعها، بل لأن آباءنا طمسوا وجه الطفلة المشتهاة، أحرقوا لعبة الطفل الرجل ولعنوا دموعه المالحة، مراهقاتنا الفوضوية وعبث العقد الثاني لا تصعد مدارجها الخاصة ولا تطل على العالم من نوافذها التي تفتحها، لا تنضج بعد الحب الأول والأحلام المتبعثرة والعاطفة المجنونة، إنما تكبر على سوط اليد وسلاطة اللسان، ينحصر هذا الإنسان في دواخلنا كمارد يتعلم العيش في مدينة الأقزام، إنه ليس لنا، الإنسان أنا ليس لي، كل هذه الأقواس التي يمر تحتها عمر الإنسان ليست لنا، هي ملك الآباء الأرباب.
lamia.swm@gmail.com
- الرياض