درجت العادةُ أن الجهات والشخصيات المعنية بالمجتمع الثقافي، رسمية كانت أو خاصة، تقيم فعالياتها مرة واحدة في يوم معين من كل أسبوع.. كذلك كانت (الصالونات الثقافية) الخاصة في الحجاز بداية، ثم في نجد وغيرها من المناطق.. وعلى النمط نفسه قامت (الأندية الأدبية) في المناطق الكبرى بداية، ثم في أرجاء المملكة كافة، وكل ناد يعتمد يوماً من كل أسبوع يقيم فيه ندوة أو محاضرة أو أمسية شعرية أو قصصية..
كانت الصحف تحرص على نشر أخبار تلك الفعاليات الثقافية الأسبوعية بشكل منتظم، وحتى اليوم لا تزال أخبار بعض تلك الفعاليات تطل علينا من بعض الصحف لنطالعها فنجد عناوينها متشابهة في الأغلب، فالمحور الأساس لها هو (الأدب) شعراً ونثراً، ثم تدنى جانب الشعر وتضاءل حضور متابعيه، واقتصر النثر على فن (الرواية).. ثم تجاوزت الفعاليات الفن نفسه، وصار اهتمامها يتمثل في (النقد) الذي أخذ مكانه متربعاً على معظم تلك الفعاليات الأسبوعية المعنية بالثقافة عموماً..
من بعد ذلك كله اتضحت للمجتمع بكل أطيافه ماهية تلك الفعاليات الأسبوعية، المتشابهة في أغلبها، غير أن ثمة محاولات – أظنها قليلة – تستحق الإشادة بوصفها أعطت مفهوم (الثقافة) أبعاده المعرفية المتنوعة، وسآخذ مثالين فقط..
الأول هو: (النادي الأدبي بالرياض)، فأنا وإن كنتُ مبتعداً عن حضور فعالياته منذ سنين، إلاّ أن دعواته تصلني عبر جوالي بانتظام، وعادة ما أبتسم وأنا أقرأ عناوين تلك الفعاليات الآخذة في التنوع منذ تولي الأصدقاء الشباب مسؤولية النادي، فقد أصبح برئاسة الدكتور عبد الله الوشمي سابقاً، والدكتور عبد الله الحيدري حالياً، ينوّع في أنشطته وفعالياته التي لم تعد (أسبوعية) فقط، بل صارت بشكل شبه يومي وبتعدد في العناوين والمضامين والضيوف ما يستحق التحية والإشادة، ومن يتأمل عناوين بعض الفعاليات يجدني على حق في الإشادة بها وتشجيعها: (دورة في الكتابة للإذاعة والتلفزيون)، (محاضرة الإعلام الجديد وتحديات المستقبل)، (الفوتوغرافيون والتطوع.. شهادات وتجارب)، (أمسية لذوي الإعاقة)، (ندوة الدول الاتحادية)، وغيرها من العناوين التي تأتي كل يوم معطية للفعاليات أبعاداً ثقافية كانت غائبة عنها في العقود السابقة لرحلة هذه الأندية مع الناس..
أمّا المثال الثاني فيتمثل في: (أسبوعية الدكتور عبد المحسن القحطاني)، التي عكف على إقامتها كل يوم أحد من كل اسبوع بمنزله في مدينة جدة منذ استقالته من رئاسة ناديها الأدبي الثقافي قبل سنتين، وأسبوعية القحطاني أيضاً لم أحضرها قط، غير أن عناوين فعالياتها تثير انتباهي وأنا أطالعها عبر الدعوات المرسلة إلى جوالي كلَّ أسبوع، فأجدها اتخذت منهجاً في التنوع ليس للتنوع وحسب، إنما لشعور بالمسؤولية تجاه المجتمع فاستحقت الإشادة كلها والتقدير كله، فمن تلك الفعاليات سأكتفي بعناوين هذه الاهتمامات التي دعت إليها في الأسابيع الأخيرة: (أثر التقدم التقني على حياة المكفوفين، مراكز الأحياء والشراكة المجتمعية، أطياف الاقتصاد، الإعلام الجديد وقضايا المجتمع، البطالة.. الأسباب والحلول)، وعلى هذه الصورة البانورامية تسير أسبوعية القحطاني بهدوء نحو أهداف ثقافية تهم المجتمع ككل وليس الأدباء وحدهم.. ولا أريد التطرق لمسؤولياتها وأعبائها، المعنوية والمادية، فأنا لا أعرف عنها أكثر من عناوينها التي أرى جدواها في مرحلتنا الراهنة.. وقد اتخذتها مثالاً هنا لأنها – فيما أظن – أحدث (الأسبوعيات) الثقافية الخاصة، وآمل أن تستمر..
فمن يقل إن الفعاليات الثقافية والأدبية يجب أن تكون موجهة للمثقفين والأدباء فقد أخطأ بهذا الاتجاه.. لأن الأديب الآن ليس بحاجة لندوة تقام حول أدبه (فهناك منتديات – إلكترونية - تتناقل منجزاته الأدبية وتناقشها على مدار الساعة، من دون حتى إشعاره بها)، والشاعر الآن ليس بحاجة لأمسية يقرأ فيها شعره، (فهناك موقع - يوتيوب - يستطيع أن يضع فيه تسجيلات لقراءاته الشعرية إن أراد)، كما أن المجتمع الآن لم يعد بحاجة لمثل هذه الفعاليات المتاحة والمستباحة بقدر ما هو بحاجة إلى احتواء كل فئاته، بخاصة المهمشة والمتعثرة والمنطوية، التي تكاد تنفجر ضيقاً وإحباطاً وضجراً بكل شيء من حولها..
أما (النقد الأدبي) الذي يطرح الآن بأنماطه وتنظيراته الجديدة، فمكانه الطبيعيّ على كراسيّ الدراسة في الجامعات، ولستُ أدري كيف سرّبه الأكاديميون إلى المشهد (الثقافي) جاعلين منه مادة أساسية لا تهم أحداً سوى تلاميذهم (!) فلا الشاعر يستفيد من دراسة أكاديمية حول شعره ولا قارئ الشعر، فلمن تكون الفائدة إذاً..؟!
وطالما أنني وصلت إلى هذه المعاني الصريحة، فسأضرب مثالاً بنفسي وأعمالي.. إذ إنني – عَلِم الله – لم أعد أهتم بشيء من الدراسات النقدية (الأكاديمية) التي يكتبها بعض الأساتذة أو الطلبة في الجامعات عن بعض دواويني، وتصلني عناوينها أحياناً فلا أحرص على البحث عنها لقراءتها، لأنني جربت ذلك سابقاً ولم أجد منه أيَّ جدوى، ولا أظنّ قارئاً من المتابعين لشعري يهتم بتلك الدراسات أيضاً.. كذلك (الأمسيات الشعرية) التي أراها لا تناسب إلا الظواهر الشعرية المتفوّقة في (الإنشاد)، كما كان الجواهري ونزار قباني ومحمود درويش أخيراً، أمّا الشاعر الذي احترف (الشعر كتابةً) - كما هو حال معظم الشعراء الذين يتورطون في إحياء الأمسيات كتحصيل حاصل ثم يتشاكون من قلة الجمهور! - فالأمسية التي يحاول فيها إنشاد شعره ستكون بمثابة جريمة يرتكبها بحق تجربته الشعرية المتمثلة في قصائد كتبها بإتقان إبداعيّ لا ترقى إليه نبراتُ صوته العاديّ، فلا هو سيستطيع إيصال المعاني بحركات جسده ولا الحاضر أمامه سيشعر به أكثر من شعوره حين قراءته لشعره. فمن أجل ذلك يجد المتابع لتجربتي أن الأمسيات التي اعتذرت عن (إحيائها) أكثر من الأمسيات التي وافقتُ على (المشاركة) فيها، كما أن الأمسيات التي امتنعتُ عن المشاركة فيها قبل موعدها بلحظات أكثر بكثير من تلك التي شاركتُ فيها فعلاً..
وسأضيف هنا أنني أرى جدوى واحدة فقط من إحياء الشاعر لأمسية شعرية، وهي أن تكون في مدينة أو قرية لم يزرها من قبل؛ ولعلي أستغل هذا السياق لأقدّم اعتذاري متأخراً جداً للأحبة في (نادي الجوف الأدبي الثقافي)، فمنذ نصف عام تقريباً أتتني دعوة منهم لإحياء أمسية منفردة في ناديهم بمنطقة الجوف، وواقفتُ عليها مسروراً لأنني لم أزر منطقة الجوف من قبل إلا عابراً من فوقها بالطائرة إلى دول أخرى(!) وبعد ترتيبات مطوّلة، وفي اليوم المحدد لصعودي الطائرة مغادراً من الرياض إلى الجوف، وأنا جالس في صالة الانتظار بالقرب من بوابة الصعود إلى الطائرة داخل مبنى المطار رأيتُ أن أستغل الوقت المتبقي لموعد الصعود إلى الطائرة في كتابة (كلمة) أفتتح بها أمسيتي المتوقعة في مساء ذلك اليوم (الاثنين 22 من ذي القعدة 1433هـ) فأخرجتُ من حقيبتي ورقة وبدأتُ أكتب عليها الكلمة الافتتاحية (الموجزة)، غير أنني حين انتهيتُ منها كانت الطائرة قد أقلعت وتركتني مع الورقة على كرسيّ الانتظار!
لستُ أدري حتى اللحظة إن كان الأحبة في نادي الجوف الأدبي الثقافي قد استعادوا مبلغ التذكرة التي تكرموا بها (على الدرجة الأولى) أم أنها ذهبت خسارة بسبب غفلتي تلك، كما لستُ أدري إن كانوا ومن وصلتهم الدعوة لحضور تلك الأمسية قد تفهموا عذري وحسن نيتي وأسفي أم أنهم ظنوا بأنني – كما يشاع عني – أتعمد التخلف عن مثل هذه الأمسيات الشعرية في اللحظات الأخيرة.. دائماً!
على كل حال، وبشكل عام، أرى أن الفعاليات (الثقافية والأدبية) التي تقام بشكل دوري، سواء كانت بتنظيم من جهات رسمية معينة أو بمبادرات من شخصيات فردية لها اعتبارها في هذا المجال، إن لم تكن موجهة لمختلف شرائح المجتمع فستظل تدور في فلك قد أصبح فارغاً، لأن المعنيين به قد أصبحوا الآن بمنأى عنه.. وأدوات المثقف أو الأديب قد باتت متداولة بين الناس عامة، فلم يعد ثمة تصنيف افتراضيّ لمن يقدم الثقافة ومن يتلقاها، فالكلُّ يقدِّم برغبته كلَّ ما عنده، والبعضُ يبحث بطريقته عن بعضٍ من المتلقين..
ffnff69@hotmail.com
- الرياض