قادني العمل في كتاب عن القصة في مجلة المنهل وكتابة مقدمة له، بطلب كريم من صاحب مجلة المنهل ورئيس تحريرها الأستاذ زهير الأنصاري، إلى تأمُّل حقبة أدبية وثقافية قريبة من بدايات تكوُّن المملكة السياسي ونشأة نهضتها الحديثة. ولم يكن أكثر كُتَّاب القصة في هذه الفترة خارج ذاكرتي تماماً، فمعظمهم أسماء معروفة للمتخصصين، وبعضهم معروف لعموم المثقفين. وقد لا تكون كتابة القصة هي سبب المعرفة المباشر، فعديد منهم معروفون بوصفهم شعراء، وآخرون معروفون لعلاقتهم بالصحافة أو بالعمل في وظائف عامة. لكن المعرفة الإجمالية شيء والمعرفة عن قرب وبالتفاصيل شيء آخر، وهذه الأخيرة هي ما أتاحتها لي حقاً قراءتي للقصص وإلمامي بسياقات أبرز كتابها وإسهامهم الأدبي والثقافي.
وربما شعرت، عبر هذه الفرصة التي أتيحت لي، أنني أقابل بعض هؤلاء الكتاب حقيقة واستمع إليهم وأراهم، وكان هؤلاء على وجه الخصوص أقدر من غيرهم في إثارة الإحساس بما يكتبون والاستدراج إلى معرفة أكثر عمقاً عنهم. ومن هذه الأسماء تحديداً محمد عالم الأفغاني. وهو أحد أبرز مثقفَيْن وافِدَيْن إلى المملكة في تلك الفترة (ثانيهما الجزائري أحمد رضا حوحو). ويرد في المصادر المتعددة للتعريف به أنه ولد في أفغانستان، ووَفَد على المدينة المنورة ودرس في مدرسة العلوم الشرعية، وعمل في التدريس، ثم نُقِل إلى وزارة الخارجية فعمل في السلك الدبلوماسي في الخارج، وعاد إلى المملكة حيث أصيب بـمرض نفسي، وتوفي عام 1386هـ.
وعلى الرغم من توارد الدراسين على وصف القصة السعودية في فترة نشأتها بالانصياع لأغراض الإصلاح الاجتماعي والوعظ والتعليم التي بدت وكأنها مبرِّر القصة في اكتساب شرعية أدبية وذريعتها إلى دخول حمى الأدب المرتهن آنذاك للشعر بأغراضه التقليدية، ولم يكن الأفغاني وحوحو بمنجاة بالكلية من ذلك، فإن الدارسين -أيضاً- يتواردون على اختصاص الأفغاني وحوحو بإصابة شيء من النجاح في حذق الأسلوب القصصي، وهي الوصفة المتداول معناها عنهما لدى محمد عبد الرحمن الشامخ ومنصور الحازمي ومحمد الشنطي وسحمي الهاجري وغيرهم. وبوسعنا أن نكتنه في ضوئها مقدار ما أحدثاه من إنهاض للقصة السعودية وتعميق لمدلولها الفني الذي لم يكن ينفصل عن غرض اجتماعي ولكنه كان يردف هذه الغرضية بالمتعة والإدهاش التي تؤول إلى قيمة لجدارة القصة من حيث هي شكل أدبي.
وقد وجدتُ، في غمرة ما تولد لدي من قصص الأفغاني من إحساس، كتاب محمد العيد الخطراوي «محمد عالم الأفغاني من رواد المقالة والترجمة والقصة» (نادي جدة الثقافي 1423هـ) فوجدت أن الخطراوي يدلل على أن أثر الأفغاني على الوعي الأدبي في المملكة بالقصة، لم يقتصر على إسهامه بكتابتها، بل كان له أثر ملموس صادر عن إحساسه -وأحمد رضا حوحو- بافتقار الأدب السعودي إلى هذا الفن الجديد، ودعوتهما الكُتّاب إليه، وترجمتهما بعض القصص إلى العربية (ترجم الأفغاني عن الأوردية والإنجليزية وحوحو عن الفرنسية). في وقت -نحن نعلم- كان زمن الثقافة السعودية يصارع للنهوض حُجُباً مطبقة من الأمية والتقليد اللذين يضاعف من شدتهما قرب الفترة من فجر التأسيس للدولة السعودية، ومعاناة الفقر.
ونجد إشارة الخطراوي في مطلع القسم الأول الذي خصصه في كتابه لنماذج من مقالات الأفغاني، لمقالة الأفغاني المعنونة: «الأدب القصصي في الحجاز: نواحي الضعف في أدب الحجاز» وفيها يتحدث الأفغاني عن سببين للضعف الأدبي عموماً يتركان أثرهما على تأخر نشأة القصة تحديداً وضعفها. وأولهما: «هذا التعليم المدرسي المحدود الذي لم يتعد حتى الآن (أي في زمنه) البرنامج الابتدائي، وهو أول وأبسط الدرجات التعليمية في العالم جميعه» والثاني وهو ناجم عن الأول ومتصل به: «عدم تكون (روح القراءة) والشغف بالاطلاع، لإيجاد مناخ أدبي وتنشيطٍ لوعي المجتمع بأهميتها». وجملة نماذج المقالات التي جمعها الكتاب تنم عن وجهة نقدية أدبية وثقافية اجتماعية، من هذا الطراز الذي يصل بين العلم والتقدم المادي والفكري.
وفي القسم الثاني يعرض الخطراوي ثمانية نصوص ترجمها الأفغاني عن الأدب التركستاني والياباني والغربي، وهو إسهام يدلل على دور الأفغاني في الترامي بالثقافة السعودية إلى ما يضيف ثراء إلى التجربة والخبرة الأدبية المحلية، عبر الاطلاع على نماذج الأدب العالمي، وهو باب - كما تشهد بذلك وقائع النهضة في الثقافات والآداب المختلفة - لا بد لأي بيئة ثقافية من ولوجه في سبيل نهوضها وتجدد وعيها بذاتها وبالعالم. وقد خصص الخطراوي القسم الثالث لنماذج القصص التي كتبها الأفغاني، وفيه ثلاثة عشر نصاً قصصياً.
نشر الأفغاني في مجلة المنهل اثنتي عشرة قصة وهي: «الثأر» (صفر 1358هـ/ مارس 1939م) «طائران إلى القمر» (ربيع ثان 1358هـ/ مايو 1939م) «عودة سعيد» (محرم 1360هـ/ فبراير 1941م) «جبار بني العب اس» (صفر 1360هـ/ مارس 1941م) «صور من حياة الصيف في المدينة» (رجب وشعبان 1360هـ/ يوليو وأغسطس 1941م) «أحلام» (المحرم 1365هـ/ ديسمبر 1945م) «الكأس الأثرية» (نشرت منجمة في خمس حلقات من صفر إلى شعبان 1365هـ/ يناير إلى يونيو 1946م) «المؤذن الصغير» (ذو القعدة وذو الحجة 1365هـ/ أكتوبر ونوفمبر 1946م) «شهر زاد» (شعبان 1366هـ/ يوليو 1947م- رمضان 1366هـ/ يوليو 1966م) «المصباح السحري» (رجب 1367هـ/ ميو ويونيو 1948م) «الفتى الملثم» (المحرم 1368هـ/ نوفمبر 1848م) «المجنون» (صفر 1370هـ/ نوفمبر وديسمبر 1950م). كما نشر قصصاً أخرى في «صوت الحجاز».
وما يزال للحديث عن الأفغاني بقية قادمة إن شاء الله.
- الرياض