كنت قد كشفت في الجزء السابق عن أبرز إيجابيات المنهج الشكلاني، وذكرت أن هذا المنهج يضم عدداً من المناهج التي سماها النقاد فيما بعد مناهج النقد الحداثي وما بعد الحداثي، ومن أبرزها البنيوية والتفكيكية ونظرية التلقي، وسأخصص هذه الأسطر لبيان الإيجابيات التي تتضمنها هذه المناهج بعد أن كنت قد أبنت في مقالات سابقة كثيراً من سلبياتها ومساوئها.
أما المنهج البنيوي فهو منهج فكري عام يسعى إلى الإبانة عن بنية الفكر الذي يمثل الأساس والأصل الذي تعتمد عليه ثقافة الماضي والحاضر، كما يحاول تحويل الظواهر إلى قوالب وقواعد محددة، وتحديد مستوياتها والسعي إلى تحليلها بغية الوصول إلى العلاقات التي تتكون منها، أما في مفهومه الأدبي فهو محاولة علمية لتطبيق علم اللغة العام على دراسة الأدب، حيث ينظر هذا المنهج إلى النص الأدبي على أنه جسد لغوي يجب مقارنته علمياً بعيداً عن أية ملابسات خارجية، ويتعامل مع الخطاب الإبداعي من منطلق تحرير الأدب من جميع المواصفات التي فرضتها عليه المناهج النقدية التقليدية حسب ما يرى البنيويون.
والحق أن أصحاب المنهج البنيوي بالغوا كثيراً في مهاجمة المناهج التقليدية، وقرروا أن ما توصلوا إليه من مبادئ وأصول هي ما يمثل النقد الأدبي الحقيقي بوصفه يحمل وحدة منهجية وعلمية تفتقدها ما قبلها من مناهج، ورغم مساوئ البنيوية العديدة إلا أنه لا يمكن إغفال الحسنات والإيجابيات التي حملتها، أولها ما كنت أشرت إليه في الجزء السابق من أن مثل هذه المناهج الشكلية يحسب لها رد الاعتبار إلى لغة الأدب، وإعادة الهيبة للنص الأدبي من خلال التركيز على لغته وأسلوبه وصياغته وطريقة التعبير فيه، وإنقاذه من الغرق في الملابسات الخارجية التي أسرفت المناهج التقليدية في الاهتمام بها.
كما يحسب للمنهج البنيوي عنايته بالخطاب الإبداعي، والنظر إليه نظرة عالية المقام، والتعامل مع ألفاظه ودلالاته ومحاولة فك شفراته وفهم إيحاءاته، حيث يرى هذا المنهج أن النص -بما يتكون منه من لغة ورموز ودلالات- هو الذي ينبغي أن يُستنطق في عملية التأويل، وهو الذي يجب أن يُسعى إلى استكناهه حين ممارسة القراءة التفسيرية والنقدية.
وللمنهج البنيوي حسنة أخرى كذلك، تتبلور في منح النص الأدبي حقه من الاحترام والتوقير، وإعطاؤه الهيبة المطلقة والمكانة السامقة المتميزة التي ينبغي أن يحظى بها، أما القارئ أو المتلقي فمهما بلغ من الذكاء والتميز والقدرة على فك الشفرات والرموز وقراءة الخبايا واستنطاق المسكوت عنه فإنه يجب أن يظل -وفقاً لهذا المنهج- محكوماً بما يحمله النص من ألفاظ ودلالة، وينبغي أن تكون اجتهاداته التأويلية متوقفة عند خطوط حمراء ترسمها له ألفاظ الخطاب، وتشير إليه دلالات العمل الفني، وهو ما يتعارض بشكل كبير مع المنهج التفكيكي ونظرية التلقي الذي سأشير إليهما لاحقا.
ومما يميز البنيوية ويجعلها منهجاً جديراً بالاتباع -لولا ما فيها من مساوئ عديدة- السعي إلى ضبط نظام النقد الأدبي أو النظريات النقدية، ومحاولة جعل هذا الضبط قريباً إلى تحقيق العلمية والمنهجية، وبعيداً عن الانطباعات الذاتية والأحكام الإنشائية التي لا تعود إلى علمية معينة ولا ترجع إلى منهجية محددة، رغم أنها أسرفت كثيراً في هذه الإجراءات وتطرفت في هذه الرؤى.
كما يمكن أن ينظر إلى البنيوية بنظرة إيجابية من ناحية ما توصلت إليه من نتائج ممتازة في عمليات التحليل اللغوي البنائي للنص الأدبي، والكشف عن آلية العمل فيه، ومن إيجابياتها كذلك النظر إلى دلالة الخطاب الإبداعي نظرة واسعة ومتعددة، ترسخ مبدأ تعدد المعاني للنص، وهي بذلك تكسر الاحتكار الذي مارسه بعض النقاد والمفسرين للنصوص، حيث سعوا إلى إغلاقها على معنى أحادي لا يمكن لها أن تتجاوزه، ومن هنا أكدت البنيوية على أن النص غني بالدلالات، ونبهت على احتماله لعدد من القراءات، وأنه ليس مغلقا على تأويل واحد أو معنى معين، حتى لو صرح المؤلف بهذا المقصد أو عُرف بأدلة سياقية وغيرها، ولذلك يقول النقاد إن الأعمال الأدبية لا تمتلك معنى أحادياً في نظر البنيوية، وهو مما يميز هذا المنهج ويجعل النص وفق العمل به أكثر ثراء وأوفر معاني، ولعل هذه الإيجابية نتجت عن قولهم بموت المؤلف الذي تم استبعاده نهائياً من عملية التأويل وفق هذا المنهج، وهي مبالغة كنت قد أشرت إلى مساوئها في مقالات سابقة، غير أننا لا يمكن أن نغض الطرف عما أفرزته من مزيد احترام للعمل الفني، وتركيز على ما يحمله من ألفاظ ورموز وشفرات، والأهم من ذلك رؤيته الواسعة لما يمكن أن يحمله النص من دلالات، وإيمانه التام بأنه لا ينبغي أن يقف عند معنى واحد أو يغلق نفسه على دلالة واحدة.
omar1401@gmail.com
- الرياض