ما البؤس في نظر أغلبية الناس؟ أو ما مفهومه لدى أغلب المجتمعات؟ هناك مَن يصنف أشكال حياة الضنك المادي أو النفسي للأفراد، الذين لا يجدون طريقاً كريماً للحياة، أو لا يستطيعون التخلص من ضغوط الحياة ومشكلات التزاماتهم فيها إلا بمشقة كبيرة ضمن دائرة البؤس. ومنهم من يوسع الدائرة لتشمل أنماطاً من حياة المجتمعات، التي تتمثل فيها الضغوط الاجتماعية، والظلم والاضطهاد، أو النفاق وتقلب أمزجة الناس، وعدم وجود القوانين الواضحة والصارمة والعادلة، بأنها من أشكال البؤس الأعلى درجة في التأثير في حياة الناس.
هل وجدتم بؤساً أكثر من أن يتحكم في الأشياء من لا يفقه أبسط شؤونها؟
لدى كل منا كثير من الأمثلة في هذا المجال؛ ولن تقتصر تلك الأمثلة على نمط من أنماط الحياة، بل إننا أصبحنا نستغرب جداً إذا وجدنا وضعاً سليماً في أي جهة كانت، أو منحى من مناحي الحياة. أصبحنا نتوقع الفساد في كل مكان، ووجود العراقيل غير المبررة في كل جهة، سواء كانت من الجهات العامة أو الخاصة، وسواء كانت في إنجاز معاملة أو فتح مشروع تجاري، أو حتى تقديم خدمة عامة إلى فئة تحتاج إليها من الناس. والمؤلم في بعض تلك الأوضاع أن من يقرر عدم ملاءمة الأمر المطلوب ليس متخصصاً في أي شأن من شؤون هذا النشاط، وأن حالات أخرى أقل نظامية وأدنى ملاءمة للشروط تمر بالموافقة، بل تحصل على الثناء والدعم، إما لموافقتها أو موافقة صاحبها لهوى من بيده الأمر، أو لأن مصادفة أجازت تلك العملية، وعرقلت الأخرى.
أذكر أنني قدمتُ مشروعاً علمياً متكاملاً إلى جهة رسمية، وطُلب مني في حينه تقديم تفصيلات كثيرة، كنت أظنها إجرائية خالصة، أو تعجيزية. وبعد أن أتممتها، ولم يجد صاحب القرار ما يتذرع به، قال: الآن اكتملت، ولكننا بحاجة إلى دعم خارجي لإتمام الموافقة على المشروع. وهكذا نتفنن في عالمنا، الذي نصفه دائماً بالأخلاقي، في عمل ما ليس من الأخلاق، ولا من الطبع الإنساني في شيء؛ ما قد يصب في مفهومنا المذكور أعلاه للبؤس.
فهل البؤس ثقافي أم عرقي؟ أم أنه نفسي - اجتماعي؟
في حقب تاريخنا الحديث، خاصة في السنوات العشر الأخيرة، طغت قيم جمعية أصبحنا نوزعها بالمجان على أنفسنا، وعلى غيرنا. فقد نشأت بعد احتلال الأمريكيين العراق في 2003م وسقوط بغداد تحركات شعبية، وانطلقت القبضات في أغلب أرجاء البلدان العربية تندد بالإمبريالية والإمبرياليين، وتلعن الروس واليابانيين، وتصب جام غضبها على أولئك الذين «باعوا روحهم» و»أطاعوا رومهم». وبعد أن «ركل الناس هنالك ركلاً طويلاً، واستعادوا حنيناً أو عويلاً»، هدأت النفوس وانطوت، ربما في انتظار سقوط عاصمة عربية جديدة.
لقد أصابنا البؤس مثل غيرنا، ولكن علينا أن ندرك جيداً أنه على الرغم من أن العالم القوي لا ينظر إلى الضعيف بعين الرأفة فإن الحل ليس في هذه الفوبيا الاستسلامية لعشاق الإحباط المنادين بالحلول الإجمالية التي تنسف كل شيء، ولا تحقق شيئاً. فبدلاً من الاتعاظ من البؤس الذي ربما يكون في طريقه لاجتياح مصر وتونس، نتيجة سيطرة تلك العقليات الشمولية على مفاصل القرار فيهما، نجد الثوار في سوريا يرددون الشعارات الفاشلة نفسها.
فقد كنا في زمن مضى نصف بعض الأشخاص الفاشلين في دراستهم أو مهنتهم، أو في وضعهم الأسري، أو في حظوظهم من الصدف الرديئة، بأنهم بائسون. لكن قضية البؤس لم تكن إطاراً عاماً يوصف به الناس، أو يسبغ على المجتمع، كما هي الحال الآن، فما الذي تغير؟
- الرياض