في اضمامة قصصية متناهية الوعي، وشديدة الوصف، يقدم الأديب والكاتب محمد عبدالله الطائي عمله السردي الجديد «مطر في بغداد»، متيقناً من أهمية أن يكون لفن القصة القصيرة دور رائد في بناء وعي الإنسان وتطوره من خلال ترجمة المعاني المؤثرة في ثنايا العلاقة بينه وبين العالم من حوله، مما يؤكد على أن القصة لا يمكن لها أن تكون مجرد كتابة تتكئ على الحكاية فحسب، إنما هي فعل فني متكامل.
فالقاص الطائي عمد ومن خلال هذه النصوص إلى استمزاج الحالة الاجتماعية الراهنة، وتصويرها من خلال الواقع المعاش ومن خلال الممارسة الحياتية للراوي البطل الذي يفتش عن حلول ممكنة للكثير من المشاكل، فلم تخرج النصوص عن مضمون البحث عن علاج ناجع لهذه الأوجاع والآلام التي بات يرصدها في الشارع العربي بين الدمام والمنامة وبغداد ومدن وبلاد وعوالم أخرى، يجد الكاتب أنه معني في سرد تفاصيلها.
يسرد الراوي لكل قصة من هذه القصص ملامح إثرائية تتعلق في تكون المشكلة أو المعاناة التي تواجه البطل ليبتكر العديد من النهايات الممكنة حتى وإن كانت غير متوقعة، فيُذكِّر القارئ وعلى نحو فني متقن بأن لكل مشكلة في هذه الدنيا حل، إلا أن بعض هذه الحلول التي يعرضها القاص أمام القارئ تأخذ في بعض الأحيان شكل المستحيل كما في قصة «مجنون المنامة» ص19.
عناصر السرد في هذه المجموعة تظهر حيزي المكان والزمان بشكل واضح ومكثف، إذ أن لكل قصة من هذه القصص تفاصيلها المعتمدة على رسم المكان المعبأ بالحكمة وسوانح الفكر والذكريات المؤثرة، ليمتزج المكان كما في قصة «الحكاء» بأحداث تاريخية استطاع الكاتب أن يختصرها بأسلوب شيق وعرض سريع يحقق من وراء هذا الاستدعاء بناء معادلة (الحكاية/ المكان) في وصف رامز لمدلول تلك الأرض التي عاش فيها البطل، ليخرج من جوف تلك الحكاية جوهرة الحقيقة التي لم تتأثر رغم كثرة ترديدها على ألسنة الرواة.
فالمكان في القصص نوعي ومتأثر بوعي الكاتب، ومتسق مع ما ينقله الراوي من أحداث تدور في مدن وقرى يعود إليها الشخوص محملين بفواجع كثيرة، تؤكد أن المكان لا يمكن له أن يتخلى عن دوره الحقيقي حينما يكون شاهدا على العصور والحقب والبشر، كما أن القصص لا تخلو من حضور مكاني مفترض يوائم بين الحكاية وأحداثها.
أما الزمان في فضاء السرد فإنه لا يخرج عن كونه التقاط حاذق لفكرة استدعاء الذكريات التي تؤرخ عادة للحياة من حولنا، فقد برع الكاتب الطائي في جعل كل حيز زماني في هذه القصص شاهد وعي على أن الحكاية لا يمكن أن تكون للتسلية وإزجاء الوقت إنما تأتي ضميرا قويا يمتلك الإجابة ويحقق العدالة.
كما يلمح القارئ امتزاج المكان بالزمان في قصة «مطر في بغداد» على وجه الخصوص والتي حملت اسم المجموعة فهذا الامتزاج نابع من رؤية سردية حاكها الكاتب بأسلوب شيق يحمل دلالات التاريخ، حيث أعد الفكرة المحورية على قوام الحكاية التراثية القديمة واستجلب الماضي ممثلا بمقولة الخليفة (المأمون) وحكاية القبور والصوفية، ليصبح النص القصصي متكاملا في فكرته ومتوائما مع حالة السرد ومحافظا على بنية القصة القصيرة وتكوينها الفني الذي لا يقبل الإطالة أو التكلف، فجاء النص متقشفا ومتكامل العناصر.
بيئة النصوص في هذه المجموعة تتردد بين الريف والقرية والمدينة، إذ لم يتخلى القاص الطائي عن رسم تفاصيل الحياة البسيطة والسهلة، فلم يكن متكلفا في بناء أي قصة وإن سعى إلى تصوير متأنق ومتأن من أجل أن يخرج النص من فكرة الحكاية الدارجة إلى نوع من الفن السردي المتكامل البناء والمفضي إلى حقيقة أن القصة القصيرة وإن خرجت من رحم الحكاية فإنها ستظل عالما فنيا مختلفا، يمكن من خلاله أن يحقق القارئ هدفه من تأمل هذه القصص التي تواترت بأسلوب شيق.
الشخوص في هذا العمل القصصي جاءوا من فضاءات مختلفة ومن أزمان وأماكن متباعدة، إلا أن الكاتب استطاع أن يصنع من وجودهم وحضورهم القوي في كل نص حالة من التعالق الوجداني بين القارئ وبين النصوص، وإن غالبت هذه المجموعة فكرة تهميشهم وقلة حضورهم حينما استطاع الراوي أن يهيمن على مفاصل القصة ويصوغها من منطلق فني مبرر يتمثل في حرصه على الاقتضاب والاختصار ليكون النص قصيرا بالفعل.
***
إشارة:
* مطر في بغداد (قصص قصيرة)
* محمد عبدالله الطائي
* دار أزمنة ـ عمان ـ (ط1) 2012م
* تقع المجموعة في نحو (80صفحة) من القطع المتوسط