أرهقه تماماً هذا الحلم المتكرر بصور مختلفة، وفي كل مرة يستيقظ متذكراً تفاصيله، وحاملاً حيرته ومخاوفه.
فكر أكثر من مرة أن يخبر زوجته، أو صديقه المقرب جداً إليه، ولكنه يتوقف حين يتذكر أن الأحلام التي تروى للآخرين تتحقق، فكر أن يتصل بأحد مفسري الأحلام، ولكنه خاف كثيراً من تفسير ربما يقلق حياته إلى الأبد.
استسلم تماماً لحلمه الذي أصبح صديقاً ليلياً لا يغيب، فليلة يرى نفسه أمام مائدة ضخمة مليئة بكل أنواع الطعام، وحين يذهب ليغسل يديه ويعود إلى المائدة، يجدها فارغة تماماً.
ومرة يستعد للسفر، ويعبئ حقيبته بنفسه، وحين يصل إلى الفندق ويفتح حقيبته يجدها فارغة تماماً.
ومرة يرى نفسه يستعد لرحلة مع عائلته، ويضع كل شيء بنفسه في شنطة السيارة (المفرش، عدة الشاي والقهوة، كرة القدم، خزان الماء...) وحين يصلون إلى المكان، يفتح شنطة السيارة فلا يجد شيئاً، ويستدير ليخبر زوجته وأطفاله بما حدث، فلا يجد أحداً داخلها فيقف مصعوقاً أمام ما يحدث له.
-2-
آخر مرة بدا الحلم أكثر غرابة، عاد إلى بيته فلم يجد فيه أحداً، كان البيت غارقاً في الصمت والوحشة وكأنه مهجور منذ شهور، دار في كل أرجائه، ودخل كل الغرف وهو ينادي على زوجته وأطفاله فلم يجبه أحد، خرج مسرعاً، ركب سيارته واتجه إلى بيت أهل زوجته، فراعه أن شوارع قريته خالية تماماً من الناس، دخل البيت فلم يجد أحداً، صفق الباب خلفه واتجه إلى بيت والده فلم يجد فيه أحداً، بدا كأن العالم كله يتخلى عنه، ترك سيارته وأخذ يجرى في الشوارع وحيداً ويائساً ومخذولاً.
استيقظ غارقاً في عرقه ومرهقاً بلهاثه، كانت زوجته إلى جواره تتململ في نومها، هل كان صوته عالياً وهو ينادي في منامه؟ حمد الله، أنها لم تستيقظ لتراه في هذه الحالة المزرية، حاول العودة للنوم لكنه لم يستطع، ظل يتطلع إلى السقف ويستعيد حلمه، ويفكر في دلالاته حتى أذان الفجر.
مشى إلى المسجد ساهماً، وصلى صلاة لم يدر ما هي، كان يفكر بخوف غالب في دلالات الفراغ القابع في كل أحلامه، هل ينبئ ذلك بموت قريب وفاجع؟! الفراغ والوحشة لا تحمل إلا دلالة واحدة: القبر، يا الله!! كيف يمكن أن يغادر الحياة بكل مباهجها بهذه السرعة وهو لم يشبع منها بعد؟!
على مدى أسبوع كامل ظل ساهماً، يأكل ساهماً، ويخرج ساهماً، ويعود ساهماً، تحدثه زوجته فلا يسمعها، يتشاجر أطفاله فلا يلتفت، يرن جواله فلا يرد، رغب عن الكلام، وزهد في الحياة كلها، لم يعد يحلق ذقنه أو يعتني بهندامه، بدا كأنما شاخ فجأة، وخلال ذلك لم يعد ينام إلا قليلاً، وإذا نام حاصره الفراغ والوحشة في أحلامه من جديد.
ظلت زوجته تلاحقه بالأسئلة والشكوك تساورها حيال حالته الغريبة التي لا تعرف لها سبباً، وهو لا يريد أن يخبرها وليس لديه سوى إجابات ناقصة «لا شيء... تعبان... مرهق...»
لاحظت أنه لم يعد يرد على مكالماته، ولم يعد يفتح «اللاب توب الخاص به» ولم يعد يخرج، ولم يعد يلاطفها، بل لم يعد حتى يلمسها، تملكها إحساس مرعب بعلاقة غرامية ربما تورط فيها، وهو الآن هارب من نتائجها، وكلما حاولت طرد هذا الهاجس، زادته حالته الغريبة، وتهر به من الإجابة عن أسئلتها المتكررة رسوخاً.
-3-
حين أدرك أنه يقف على حافة الجنون باح لزوجته بسره، بداً واضحاً وهو يحكى لها أنه لم يعد يرى أمامه إلا الموت، طارت وساوس زوجته من النافذة، وضمته إلى صدرها وهي تقول: لا تخف هذه مجرد أحلام لا معنى لها... لكنه لم يطمئن أبداً ولم يتوقف عن الخوف.
-4-
الليلة سأتصل بأحد مفسري الأحلام - هكذا حدث نفسه - لا بد أن أضع حداً لهذا القلق!
ذهب إلى صديقه المقرّب، أخبره بكل ما جرى ويجرى له، ضحك صديقه طويلاً وهو يقول له «يا شيخ هذا القلق كله، وهذا الخوف من أجل حلم تافه، لا تخف.. لا تخف، قم احلق ذقنك وضبط نفسك، وتعال نتصل على برنامج تفسير الأحلام، وصدّقني يمكن يقول لك الشيخ : ستحصل على قطعة أرض مساحتها كبيرة جداً لكنها ستكون فارغة لا ماء فيها ولا شجر، ويمكن... يمكن يقول لك أنت تقوم بأعمال خيرة كثيرة ولكنها في أغلبها نفاق، ولذلك تذهب أدراج الرياح، أحسن النية في أعمالك، وانتظر خيراً، ويمكن يقول لك: حياتك خالية من المعنى اجعل لحياتك معنى، أكثر من أعمال الخير، وربما...ربما يقول لك هذه أعمالك السيئة تأتيك بهذه الصورة لتنبهك من غفلتك، انتبه لنفسك فاهمني انتبه لنفسك» وغمز صديقه بعينه وهو يواصل تطمينه وتوقعاته.
لم يكن يسمعه تماماً، كان قد أدار التلفزيون على برنامج تفسير الأحلام وبدأ في تسجيل رقم الاتصال الظاهر على الشاشة في جواله، وقبل أن يضغط الرقم، سمع الشيخ يقول نعم تفضلي يا أختي، وسمع صوتاً يشبه صوت زوجته، وحلماً هو حلمه بكل تفاصيله، كان الشيخ يهز رأسه متعجباً مرة، ومندهشاً مرة أخرى، وحين انتهت السائلة من سرد تفاصيل حلمه، تنحنح الشيخ وقال: حلمك غريب يا أختي، وله احتمالان، احتمال خير واحتمال شر، وأنا أرجح...
لم يتركه يكمل، أطفأ التلفزيون فجأة وقذف بالريموت كنترول بعيداً حتى لا يصل إليه صاحبه وخرج مسرعاً وصديقه ينادي عليه ويترجاه أن يعود لكنه لم يجبه.
لم يكن يدري إلى أين يذهب؟ كل الأماكن خالية وموحشة...
ترك سيارته وأخذ يركض في الشارع وحيداً ويائساً ومخذولاً.