إلى الأخ الدكتور محمد بن سعد الدكان .. تراتيل وجع، وتفاصيل ضنى، وانفلاقات ضوء
الآن أدركتُ كُنهَ النشوةِ الآنا
لمّا تحَسَّيتُ كوبَ الفجرِ ظمآنا
كان الظما منذُ عامٍ ماءَ قافيتي
وكنتُ أطعمُها صمتًا ونسيانا
وكنتُ أجترحُ الأفراحَ شاحبةً
وكنتُ أصبغُ وجهَ الريحِ أشجانا
وكنتُ أحشو بسمعِ الليلِ أسئلةً
ضريرةً لم تجدْ في التيهِ آذانا
عامٌ كـما تزفُرُ الأغوالُ، تلفحُني
أنفاسُه السودُ أسقامًا وأحزانا
عامٌ كما استوحش الغافي بقاحلةٍ
أهدتْ له في هزيع الخوفِ غِيلانا
مذبذَبٌ كرياح القيظِ، أوّلُه...
ماذا أقول؟ فيا ما كان ما كانا!
ما كحَّل الغيمُ فيه جفنَ سُنبلتي
ولم تجدْ في صفيقِ الرملِ غدرانا
في وحشةٍ كفحيحِ البِيدِ، مصطفِيًا
من جمرةِ الليلِ والأوجالِ ديوانا
أصيحُ: أيانَ يا دنيا نهايتُه؟
فيستجيبُ الصدى: أيان أيانا
ما كنتُ إذْ ذاك إلا شمعةً ذُعِرتْ
إذْ قيل - وهْي تعاني- «تنطفي الآنا»
وبعد نَفْضَةِ حُمّاهُ، يلوِّحُ لي
أفْقٌ يمدُّ لطير القلبِ أفنانا
خرجتُ من لـُجَجِ الأعرافِ مختضبًا
لونَ الرماد، أسوقُ الغمَّ قُربانا
ولم أمالئْ من الأوجاعِ سافرةً
بل قمتُ أهدمُ أسوارًا وحيطانا
كم خارجٍ من ظلام السجن مكتئبٍ
يظلُّ يرهَبُ في جنبيه سجّانا
وكم أسيرٍ نجا من قيدِ آسرِه
أمسى يشيِّدُ بالأوهامِ جدرانا
أما أنا فدلَقْتُ الضوءَ في رئتي
ورفرف الغدُ في عينيَّ لهفانا
ما أبشعَ العيشَ كالتمثالِ! ما شعرتْ
به الحياةُ، ولم يشعرْ بما كانا
فعشْ حياتك شمسيّ المنى بَهِجًا
ولا تكن في مَجَسّ الحُلمِ جثمانا
* * *
يا من تخلّق صوتًا لا نَدِيدَ له
فلَمَّ عنه الصدى أذْنيْه خجلانا
خذْ صولجانَ القوافي يا ابن بَجدتِها
وكنْ على أمّةِ النقادِ سلطانا
وعِمْ ضياءً، سُقيتَ الشمسَ، فاعلُ على
عرشٍ تنقِّشُ فيه الجنُّ ألوانا
حَلَوتَ يا بلَحَ البَرْحِيّ مكتنزًا
طراوةً فانسَكِبْ في الروحِ فنجانا
واسرِدْ لنا صبَواتِ العِذْقِ حين صغا
لسامرِ القيظِ مفتونًا وفتّانا
ذكّرتَ إبريقيَ الساجي مواعدَه
فاشتارَ سُكّره الأحلى وحلّانا
واختالَ من حوله معناك مِبخرةً
ترتّلُ العبَقَ المسكيَّ نشوانا
فها نبيذَ حروفي، هاكَه قدحًا
يختالُ في شفةِ النسيانِ يقظانا
لا قهوةَ اليومَ إلا ماؤها ولعٌ
ولا نديمَ سوى سحرٍ تغَشَّانا
فخُذْ بعينيكَ إكسيرَ المنى نسجتْ
أصابعُ الضوءِ من سِيماه أردانا
* * *
كم أحرفٍ نزحتْ قلبي فضَيَّفَها
جَدبُ المخبِّين إعراضًا وخذلانا
يا ضَجْرة المَرسَم الغافي على تُحَفٍ
إذْ صار زُوّارُه الأفذاذُ عميانا
لا يسمعون سوى (مستفعلن فعِلن)
وضجّةُ الجرْسِ تُغوي الأذْنَ أحيانا
إن القصيدةَ حمقاءُ المُنى، ذهبتْ
تجـُسُّ في لَهَوات البُكْمِ ألحانا
ما أبأسَ الدارَ ماستْ في مفاتنِها
ولم تجدْ من سَراةِ الناسِ سكّانا!
الشعرُ قلبٌ رهيفٌ إن عبثتَ به
جرحتَه فلوى شطريْه غضبانا
فارفُق به، دارِهِ، كن ماءَ وجنتِه
وكن لعينيه أهدابًا وأجفانا
فإنه غامضٌ كاللغز، يفتِلُه
داهٍ، وينصَبُ في مغزاه أدهانا
يأتي رُخاءً، كما يشجيك مبتهلٌ
أطاشَ من شفتيه السحرَ أوزانا
أفاء من هيبةِ البيداءِ هَجْعتَها
وابتثَّ من غَلَسِ التاريخ كُهّانا
واستلَّ من كل غاوٍ كُنهَ غَيّته
حتى استوى في البروجِ الخُضرِ شيطانا
من ناره أيقظ الإغريقُ شعلتَهم
فرَجَّتِ الفَلَكَ المذهولَ أزمانا
وكان للعرب الأقحاحِ مُدَّخلا
للخُلدِ، فاعتمروا الأعصارَ تيجانا
إذا أباح مَكَانِينَ الهوى احتشدتْ
مجرّةً تعصرُ الإصباحَ هتّانا
يبتزُّ خاصرةَ الأنواءِ يهصرُها
عُمْرًا ويسبكُها خوخًا ورُمّانا
أرتادُ عُشبَ مغانيه فيغمرُني
كونٌ يُفتِّقُ في جنبيَّ أكوانا
فأنتقي منه وجهًا سَكْبُه أبَدٌ
ينصبّ من قُلَلِ الأحقابِ عجلانا
لم يستَحِلْ في حدادِ الفنّ أرملةً
وعافسَ الموتَ ضرّابا وطعّانا
قنديلُه في الليالي الغِيدِ مكتحلٌ
بالحُلمِ يجتذبُ الأنفاسَ ولهانا
الشعرُ كان ملاذَ الشمس، تجعله
خِدنًا، وتسلو من الأقمار أخدانا
مُتوّجٌ كِسرويُّ الكِبْرِ تُسكِنُه
عباقرُ الفلقِ المجنونِ إيوانا
ميثاقُه أن يُرى في كلّ غاشيةٍ
بدرًا، ويَمهدَ للأوتارِ أغصانا
يُقيمُ للزمنِ الموتورِ واتِرَه
وفيه يمسي لجُرح الأرض دفّانا
من فتنةِ البابليَّيْنِ انتقى شهُبًا
شاقتْ إليها عصا موسى بنِ عمرانا
* * *
إني على ملّةِ المجنون، مُنتظرٌ
وجهي الذي بات في التوبادِ غرثانا
لا وجهُ ليلايَ صافٍ حين تعكسُه
مِرآةُ روحي، ولا ميعادُها لانا
أظلّ أحضن أوجاعي، أدلّلُها
وفي سُباتِ همومي كنتُ حَضّانا
وقد أتيتَ فصيِّرْ لحظتي نغمًا
تصوغه شفتا زريابَ بستانا
* * *
ميعادُ نفسي تكايا الشمسِ إن أذِنتْ
مَرَقتُ في غورها للخُلدِ صَديانا
وإن أبَتْ صرتُ في أعتابِها حجرًا
يستَفُّ من قُدسِها ضوءًا وريحانا
إن المقاديرَ أشتاتٌ، وأهنؤها
للروحِ أن تَرِدَ الأفراحَ عطشانا