كتب العقاد في سيرته (أنا) أن الأفكار التي كان يؤمن بها قبل عشرين سنة لم يعد يؤمن بها بعد أن جاوز الأربعين، وفي مقالة وسمها أيمن الجندي بـ(من وحي الأربعين) يقول: «منذ أن بلغت الأربعين لم تعد الأمور بنفس الوضوح بالنسبة لي، حينما أستيقظ تصيبني الدهشة كوني ما زلت حيًّا» لقد أصبح متصالحًا مع فكرة الموت بعد الأربعين حتى أنه يقول: «صرت أعيش يومي وكأنه اليوم الأخير. صارت الساعات ثمينة والحياة نعمة قصوى. وشعرت بالأسف على أيامي الطويلة التي أنفقتها في اللاشيء» -المصري اليوم/ع2227/الإثنين 2010-. وهذا محمد بن سيف الرحبي يجعل من (بوح الأربعين سيرة إنسان) عنوانًا لسيرته الذاتية –مؤسسة الانتشار العربي 2009-.
وعن وحي الخمسين وما بعدها من عقود، يواصل الرجل في كتابته وبوحه؛ فهذا عطا عبد الوهاب في سيرته (سلالة الطين) يتساءل: «أين تنتهي مرحلة الشباب؟ إذا كان الحد الفاصل هو الشعور بالشباب فأنا لا أزال وقد دخلت الخمسين أشعر بالشباب شعورًا حيًّا دافقًا»ص139، ويبدأ العد التنازلي عند ماركيز في روايته (ذاكرة غانياتي الحزينات) بعد الأربعين فبعد أن كان يحسب عمره بالسنوات أصبح يقيس حياته بالعقود. ولصلاح القرشي (شيب) قصة قصيرة تُشَبه الحياة بـ»القطار يصعد إلى الأعلى في بطء شديد. وفي إثارة شديدة، يصعد بطيئًا مما يمكنك من التفلت، ورؤية الكثير من التفاصيل، يمكنك حتى أن تنظر إلى النساء، تنظر إليهن من أعلى وتراقب شابة جميلة تتمخطر في مدينة الألعاب، لكن ما أن يصل القطار إلى القمة، حتى ينحدر بسرعة هائلة، سرعة مرعبة يا رجل، سرعة لا تمكنك من التمييز بين النساء الجميلات، سرعة لا تمكنك حتى من أن تفكر، أو تسمع شيئًا ذا بال لا شيء سوى الصراخ والصراخ».
والحديث عن الأربعين في كتابات الرجال واضحة المعالم، وما ذكرتُه غيض من فيض حيث يتكلم الرجل ويعبر عن مخاوفه بلا حرج، ولا يعد ما يكتبه في ذلك جرأة في حديثٍ مسكوت عنه، بل إن المتلقي في أفق انتظاره لا تنتابه الدهشة سواءً كان الحديث في هذا مغلَّفا بإطار إيجابي أو حديثاً تلفه الروح التشاؤمية فهل ينتظر المتلقي مثل هذا حين تكتبُ المرأة؟ إن العمر بالنسبة للمرأة سرٌ تحب كتمانه، وحتى لو أجابت صدقًا فإن إجابتها تحوم حول الحمى دون أن ترتع فيه، حتى تأتي ليلى الجهني وتأخذ من عمر المرأة عنوانًا وموضوعًا للكتابة الأدبية في (40 في معنى أنْ أكبر) ولا علم لي بكاتبة عربية كتبت بمثل ما كتبت ليلى؛ أم كان لها قصب السبق في ذلك، وربما كتبت بعضهنَّ عن هاجس العمر في أثناء سِيرهنَّ أو عن وطأة الزمن المتقادم والصعوبات التي ترافقه، لكن هل أفردن عمر الأربعين في كتاب خاص يذكر بصراحة تامة تلك المخاوف التي تحيط بالمرأة؟ إذا أخذنا بالاعتبار التدوينة التي كتبتها الأستاذة هناء الحكيم في مدونتها (تراقيم) بعنوان (الحياة بعد الأربعين) وفيها تحدثت عن فكرة (أن الحياة تبدأ من الأربعين) بينما لو أخذنا حيثيات حياتها ومرضها بسرطان الثدي؛ فسنجد أن الشفاء كان دفعة إيجابية لها «حياتي بدأت من جديد بعد الشفاء» فالصحة التي شَعَرت بأن الله وهبها إياها جعلتها تتساءل: «أليس من المفترض أن تكون الأربعين نقلة إلى حياة أفضل، حيث تزداد الحكمة، ويستقر الفكر، ويستفاد من الخبرات والتجارب؟» وربما كان المرض رسالة وصلت إلى وعيها فاستقبلتها بشعور بالمسؤولية تجاه الحديث عن مرضها، وكيفية التعايش معه في كتابها: (الحياة الجديدة) وتتضح كمية التفاؤل الكبيرة في عنوانه وهي التي بيَّنت في مقالها أنها كانت: عجوزًا قبل السرطان، فلما مرضت أحسَّت أن هناك الكثير من جمال الحياة قد فاتها.
شدني حرف ليلى والعمق الكبير في أفكارها، وأجدني قادرة على قراءة كتابها للمرة الثالثة وربما باستمتاع أكبر، وباكتشافات أخرى، إذ كيف حسبت ليلى أربعينها؟ وفضلاً عن كون الفكرة جريئة في تناولها، فإن التعامل مع السنوات الماضية، والكتابة عنها كان ممزوجًا بحمولات النصوص الدينية، فكان هذا التناص الذي أعطى للنص عمقه ووعيه، بدءًا بتصدير الكتاب بآية «حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة قال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي» الأحقاف:15. حيث اختارت الأربعين وربطتها بالكبر في العنوان؛ وهو دليل فهمٍ عميق لدلالات الأربعين من النضج والاكتمال، وفي صفحات تالية تحس بواجب الشكر ومسؤوليته حين تُبين أنَّ «النعمة كالابتلاء ثقيلة، وأن شكرها أثقل من الصبر على ضدها»ص32، وهو الأمر الذي دعا نبينا سليمان –عليه السلام- ربه فقال: «رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي» النمل:19، وعندما تدير رأسها وتتأمل شريط الأربعين التي قد خلت، والمتاعب التي قادتها إلى الاستئناس بأنه « ما من إنسان إلا وهو مخلوق في كبد» ص13؛ذلك النصب الذي لا يفارقه من الصرخة الأولى التي ترافق خروجه إلى حيث تكون الحياة إذ جاء في قوله –تعالى-: «لقد خلقنا الإنسان في كبد» البلد:4. وحين لا تريد ليلى أن تحيا إلى أرذل العمر؛ استحضاراً لاستعاذة النبي –صلى الله عليه وسلم- منه، وللعجز المصاحب لكبر السن، وتتجلى وصية النبي الكريم -عليه السلام-»كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل» في قناعة ليلى ونظرتها تجاه الحياة بقولها: «وجل الحياة حينما أتأملها عابر يحيى عابرًا»ص8، وكما صدرت كتابها بآية فإن خاتمة الكتاب كانت بالآية القرآنية: «قال فما بال القرون الأولى * قال علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى» طه:51-52؛ وكأنه تفويض العلم لمالكه، فالزمن فكرة ترهق ليلى وتنفق جل وقتها كي تفهمها فلا يتأتى لها ذلك فتساءلت في الصفحات الأخيرة قائلة: «أين تذهب كل أعوامنا التي تغادرنا؟» حتى تجيبها الآية: {فِي كِتَابٍ لَّا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنسَى}.
تُعجب ليلى فكرة قياس عمرها بالمعرفة التي أضافتها لنفسها، ومصدرها في معارفها «أن أعي العالم وأتعامل معه من خلال كتاب «ص26، وينساب إحساسها بالزمن الذي يشكل جزءًا هامًا في حياتها؛ فالنوم عندها خسارة كبيرة لذا تتقلب في أرقها تفكر في الأشياء التي ستفوتها إذا غابت بنومها وحين تنام توقظها أفكارها بل هواجسها في أن شرًا حلّ بمن تحبهم وهي لا تستطيع أن تمنعه عنهم بل أن تمنعه عن نفسها. والزمن بالنسبة لها لغز تتماهى معه في أسئلتها ورغبتها في تحويل الزمن اللامحسوس إلى شيء مادي تحتفظ به في مكان ما «لم لا يمكن أن نحتفظ بأعوامنا في مكان ما كثيابنا وأشيائنا العتيقة؟»ص49، فعمرها الزمني يقابل وعيها، وكلما يزداد الوعي حدة تزداد ليلى في تقدمها عمرًا، وكلما تقدمت تكبر معها المخاوف وأولها خوفها «من حدة وعيها التي تقودها إلى الجنون»ص53.
وعلى عتبات الغلاف تُكتب الأربعين رقمًا كبيرًا، وتُرسم امرأة بلا ملامح تجتمع على نفسها بما يشكل صورة الانطواء على الذات، هذا الانطواء في عمر الأربعين يصير دافعًا وباعثًا على الكتابة، ولا يمكن الجزم بسيرية النص (40 في معنى أن أكبر) ما دام الغلاف لم يحمل تصنيفًا أجناسيًا إلا إن كانت ليلى قد أكدت سَيريته في لقاء لها؛ ولذا كانت القراءات للكتاب والمقاربات تتعامل معه باعتباره سيرة ذاتية، وتأتي ريادتها في عنوان سيرتها بتجلي تيمة (الكبر) بدءًا من عتبة النص (في معنى أن أكبر)، وتكرر هذه الجملة (إنني أكبر) فاتحةً لكل نص من نصوص كتابها الثمانية والعشرين، بالإضافة إلى صيغٍ مُقَارِبة (أن أكبر، تكبر معي) ما يقارب الأربعين مرة في كتابها ويمكن أن يدل هذا التكرار على وعي وتأكيد لعلمها بهذا الوعي، وأن الفكرة التي تريد أن تصل إليها هي أنها تكبر ولأنها تكبر وتصبح أربعينية فهي أكثر وعيًا بنفسها وهي قادرة على الحديث والمصارحة والجرأة.
إنَّ الأربعين عند المرأة هي مرحلة جديدة لها ظروفها وآثارها التي تظهر عليها، وهي تظن أنها تتقن إخفاءها، وليلى حين تكتب عن هذا العمر تثير عددًا من الأسئلة: أولها عن الفرق بين سن الأربعين في سيرة المرأة الذاتية عنها عند الرجل؟ وهل لتوافر نصوص الرجل عن عمر الأربعين، مقارنة بمحدوديتها عند المرأة يمكن أن يعطي إيحاءً آخر بسرية هذه المرحلة حتى في الكتابة الأدبية بالنسبة للمرأة؟ ثم إن المرأة حاضرة في كتابة الرجل عن عقده الرابع؛ فكيف هي صورة الرجل عند المرأة في سن الأربعين؟ في كتاب ليلى يحضر الرجل مرة والدها، وأخرى زوجها اللذين اشتركا في أنهما فهما اختلافها، على الرغم من أنها ترى القلق في عيني والدها خوفًا عليها من هذا الاختلاف، وتشعر بالأمان؛ لأنها حين تقول لزوجها إنها تشعر بالفراغ فإنه يدفعها نحو الكتابة فيقول لها: «اكتبي»ص36؛ لأنه يفهم حاجتها للكتابة، فهل تؤكد ليلى أنها على غير عادة النساء لا يشغل الرجل بالها بل هي منشغلة بـ «وعيها الحاد»ص44، وتشعر بأن هناك ما يمكنها معرفته إذا عاشت أكثر، لذا فهي تتشاغل بالمعرفة التي ستسندها لا رجلًا تلح النساء عليها بأهمية إنجابه فيقلن لها: «جيبي لك سند يشيلك لما تكبري»ص12، ولتعبير (يشيلك) ما يوحي بالقابلية للانهزامية والاتكالية التي لا يمكن أن تتوافق مع طبيعة ليلى وتفكيرها، وهذا يقودنا لسؤال جديد إذ كيف تكون صورة الابن عند امرأة أربعينية لم تنجبه؟ وترى فيما تؤلفه ما يحمل اسمها ويخلده، وابن القيم في صيد الخاطر قد بيَّن أن التصنيف ولدٌ مخلد بقوله: «يسعى في تحصيل ذرية تَذْكر الله بعده، فيكون الأجر له. أو أن يصنف كتابًا من العلم، فإن تصنيف العالِم وَلدُه المخلد»ص28، وفي هذا عمق كبير لمعنى الإنجاب الذي يتجاوز حمل الاسم وتخليده في الدنيا إلى ذكر الله والأجر الموصول بالآخرة، وأهمية العلم الذي يرفع ذكر الإنسان في الدارين. وحين تكلمت ليلى عن الموت قالت: «هل نسيت خالدًا؟ لقد مات قبل أن يكبر بكثيييير» وربما اختارت اسم خالد وكررت الياء أربع مرات قاصدة العقود الأربعة التي هي مقياس كبره لو كتب له بلوغها، لتتأكد فكرتها وقناعتها المختلفة في معنى الخلود: «ما أنجبته عصي على الموت، وكل ما أعرفه عن الحياة جعلني أدرك أن الخلود حِلْية من يعي لا من يتكاثر»ص11.
وقد كتب بدر الراشد في ثقافة اليوم في صحيفة الرياض-ع15104/ السبت 1430هـ- ما نَصُه: «ربما كان ما كتبته ليلى يحمل بعض المفارقات، فمن تحب الصمت عن الكلام، تثرثر بالكتابة، ومن تقول «إنني أكبر وأزداد مرضاً بخصوصيتي» تنتهك أهم ما يخفيه البشر أو يموهونه .. أفكار وجودهم.» إنني أوافقه بأنها انتهكت السر الذي حاولت المرأة جاهدة أن تخفيه، وبأنها كسرت أفق انتظار القارئ في كتابة المرأة عن عمر الأربعين.
دَوّن الكثير من القراء انطباعاتهم عن الكتاب في موقع (goodreads) وأجمعوا أن ليلى قالت الحقيقة في كتابها، وأضافوا تعجبًا يمتزج بالخوف من شعورهم بما كَتَبَتْه عن الأربعين، وكأنها تتحدث بلسانهم بينما لم يمض وقت على بلوغهم سن العشرين! فهل لامس النص إحساسهم لسبب عائد للترتيب النفسي التي ذكرته (أناييس نن) أسبانية توفيت بالسرطان ترجم (محمد الضبع) إجابتها، حين سألها أحد الصحفيين عن شعورها تجاه تقدمها بالسن فقالت: «إن التقدم في السن لا يهم أبدًا، الأمر ليس مرتبطًا بالترتيب الزمني. بل بالترتيب النفسي. أستطيع أن أكتب طوال اليوم، أسبح، أحاضر، أسافر. أظن أن التقدم في السن هو بالكاد لحظة تعب»- مدونة معطف فوق سرير العالم-.
وتتحدث التشيلية (إيزابيل اللندي) في سيرتها (حصيلة الأيام) عن أمنياتها في أن «لا يضيع أي منا في خرف الشيخوخة، ويكون على الآخر أن يُعنى بجسده المحطم، فالأمر المثالي هو أن نعيش معا وبكامل وعينا»ص332 وفي سيرتها تقابل الروائية (إيزابيل) بشكل طريف ومؤلم في الوقت ذاته معنى فصل: «الخريف، حسب المعجم، ليس الفصل الذهبي من السنة وحسب، وإنما هو السن التي لا يعود فيها المرء شابًا»ص171؛ وحدها استطاعت ليلى أن تحمل عبء الكتابة في الوقت الذي أصبح فيه الخريف –سن الأربعين- فصلًا مزعجًا بالنسبة للمرأة، لتقول ما في جعبتها بصراحة مذهلة؛ تجعلنا نتساءل: هل من الصحي –في علم النفس- أن تصرح ليلى بهذا الشكل عن أفكارها؟