عند كتابة العمل الأدبي يخضع الكاتب إلى تنظيم لا يقصده، يفرزه المنظور الذي يرى به الأحداث، هذا المنظور يتمثَّل في وضع الراوي من القصة، فالقصة مثل أي ظاهرة لغوية تقوم على علاقة تواصل بين راوٍ ومتلقٍ، لكن الروائي لا يتكلم بصوته، بل يفوض راوياً تخيلياً يأخذ على عاتقه عملية القص، ويتوجه إلى مستمع تخيلي «فالروائي يتقمص شخصية خيالية تتولى عملية التوصيل»، وسُميت هذه الشخصية «الأنا الثانية للكاتب»(1). وتظهر الأنا الثانية للكاتب في الرواية «من منظور الرؤية من الوراء وهي تسمية أطلقها جون بون، فالراوي يعلم أكثر الشخصية»(2)، وعلى الرغم من أنه لم يظهر- أي الراوي - كشخصية من الشخصيات إلا أنه له وجود ملموس؛ ولتتضح تقنيات تعامل السارد مع الشحصية يُعرض على سبيل المثال لا الحصر مواقف شخصية حميدة في الرواية وعلاقتها بالسارد فيُلاحظ ظهورها في صور ثلاث.
أولاً: السرد من خلال تقنية الرؤية من الوراء: حيث يقف السارد بشكل مباشر؛ ليعطي تقريراً عن ملامح الشخصية الداخلية والخارجية، «هي فتاة مقطوعة النسب، معدمة اليد، ولكنها لم تفقد قط روح الثقة والاطمئنان، وربما كان لحسنها الملحوظ الفضل في بث هذه الروح القوية في طواياها، ولكن حسنها لم يكن صاحب الفضل وحده، كانت بطبيعتها قوية لا يخذلها الشعور بالقوة لحظة من حياتها،»(3) وهذه العبارة السردية تتسم بالكثافة والتركيز؛ ليتمادى الأسلوب التقريري الذي يشعر بأن السارد هو الشخصية بنفسها وصوتها الداخلي، وما يبدو من سلوك هو نتاج أفكارها «والتفت حميدة في ملاءتها ومضت تستمع إلى دقات شبشبها على السلم في طريقها إلى الخارج وقطعت الزقاق في عناية بمشيتها وهيبتها؛ لأنها تعلم أن أعيناً أربعاً تتبعها متفحصة ثاقبة (4)، وفي موضع آخر» أن حركة حميدة التي قد تبدو غير واعية للعيان هي حركة مقصودة» ولم تكن تفاهة ثيابها لتغيب عنها.
ولم يكتف السارد بحضور صوته في داخل الرواية، بل كان أحياناً ينتقل من دور الواصف إلى دور الناقد.. كقوله: «وربما كان أغرب ما رميت به أنها تبغض الأطفال، كما أنها بالتالي امرأة متوحشة محرومة من نعمة الأنوثة (5)،
ثانياً: المونولوج الداخلي حيث تخاطب حميدة نفسها، بصوت نسمعه في كلماتها نحو قولها: «ثم.. رباه ما هذا؟! إنه لم يبرح مكانه؟.. وقد يشير السارد إلى المونولوج الداخلي بلفظ تساءلت: «أتراه يبتسم الآن تلك الابتسامة الوقحة؟! (6)
وفي موضع آخر، تساءلت: «ترى ماذا يقولون عني).. ونموذج آخر يتضح في حوار الأفندي فرج إبراهيم مع نفسه - أي المونولوج الداخلي -» مليحة بلا أدنى شك، وهيهات أن يكذبني ظني فهي موهوبة بالفطرة، وسوف تكون نادرة المثال (7).. وهنا يلتزم الأديب بمستوى وعي الرواية وإلا وجدت المفارقات الفنية واللغوية بين المونولوج الداخلي (حوار الشخصيات مع نفسها) والسارد (سرد الأديب غير المباشر).. ولأن القارئ حيال رواية فنية متقنة، فينتقل عبر المستويين بلا توتر أو نفور.
ثالثاً: الحوار «وهو وسيلة التفاعل بين الأحداث وشخصيات الرواية، ووسيلة التفاعل أيضاً بين شخصيات الرواية بعضها مع بعض ويُرصد منه الآتي: قالت حميدة لأمها يوماً وهي تتنهد:
- حياة اليهوديات هي الحياة حقاً!!
- فانزعجت أمها وقالت:
- إنك من نبع أبالسة ودمي بريء منكِ.
- فقالت الفتاة إمعاناً في إغاظتها:
- ألا يجوز أن أكون من صلب باشوات ولو على سبيل الحرام.
- فهزت المرأة رأسها، وقالت ساخرة:
- رحم الله أباك بائع الدوم بمرجوش (8).
فالسارد هنا يترك فعل الحدث ينساب في حرية وحركة وحوار، فلا يُظهِر للمتلقي وجود سارد يتدخل في الحدث.
والأمثلة على ذلك كثيرة منها الموقف الذي يُصور اللقاء بين حميدة وعباس الحلو (9)،
وأحياناً يتدخل السارد برأيه أو مشاعره فيظهر متعاطفاً مع بعض الشخصيات في مواضع، فيُلاحظ أن ثمة فارقاً في تصوير المؤلف لشخصية حميـدة في علاقتها بعباس الحلـو حيث يُلحظ فيها حضور السارد؛ لمحاولة الشرح والتفسير، فيصف حب عباس بالطاهر العفيف، وكأنه يريد أن يشير إلى قدسية ذلك الزقاق، فكل ما فيه يجلب الخير، وكل محاولة للابتعاد عنه هي بداية للشقاء الأبدي. «سَكرَ قلبه برحيق نشوة سامرة، ولم يكن له عهد بمثلها من قبل كان محباً صادقاً ملتهب العاطفة.. كان كالحمام يحلق في السماء ويطوف بأطرافها ثم يقع في النهاية على برجه ملبياً صفير صاحبه فهي دون النساء جميعاً أمله المنشود» (10).
وعند وصف النموذج الذي من خارج الزقاق (الأفندي فرج إبراهيم) نقل حقيقة مشاعره المزيفة داخل الحوار.
- أهؤلاء صاحباتك؟ كلا لا أنت منهن، ولا هن منكِ، ولكني أعجب كيف يتمتعن بحريتهم، بينما تقبعين أنت في البيوت؟، وكيف يرفلن في الثياب الزاهية بينما تلتحفين أنتِ في هذه الملاءة السوداء؟ (11).
- لماذا تعودين إلى المدق؟ أتنتظرين هنالك شأن الفتيات البائسات حتى يتعطف رجل من مخلوقات الزقاق فيتزوجك ويلتم حسنك النظير» (12).. فنجح السارد في عرض صورتي الخير والشر بلون واحد لكن ظلالهما ليست متشابهة.
ويُلاحظ أن الكاتب عندما يستخدم المنظور الذاتي يخفى علينا ما هو خارج دائرة رؤية العين، «فالكاميرا خارج الشخصيات، وقد تنفتح الكاميرا فنرى المنظر الكلي وتظهر بانوراما عامة أوقد تضيق فنرى صورة من قرب (clos up) (13)».. والمثال الآتي يوضح هذه الفكرة وهو على سبيل التمثيل كذلك لا الحصر.
فقد برزت من خلال الرؤية الذاتية أو المنظور الذاتي مثلاً كيف كانت حميدة تنظر لحياة اليهوديات، بينما لم يُعرف مثلاً كيف كانت نظرة اليهوديات تجاه حميدة؟؛ لأن التركيز كان على نظرتها هي لهن وليس على النظرة التبادلية.
ومما سبق يتضح كيف تعامل السارد مع هذه الشخصية، وذلك من خلال استخدام تقنية الرؤية من الوراء واستخدام السرد بضمير الغائب هو، كما اتضح مزج الكاتب بين المنظور الذاتي والمنظور الموضوعي.
والبراعة المتقنة في هذا الخلط بين النماذج الثلاثة (السرد والمونولوج والحوار) نجح في تشكيل صورة دقيقة لعالم حميدة الذي تحياه داخل نفسها وداخل الزقاق وهو:
1 - عالم الواقع بحقائقه العارية بصدق وصراحة مباشرة.. ممثل في معرفتنا لحقيقة أصلها ونسبها وملامح شكلها في فرحها وغضبها، وموقف الشخصيات منها، وموقف السارد نفسه من تصرفاتها.
2 - العالم السلبي وهو عالم الزيف والكذب والخداع الذي عاشته مع أم ليست بأمها، ومع خطيب لا تقيم له وزناً في نفسها، ومع عشيق يقودها إلى الهاوية.. فيتحول عالم الزيف في نهاية الرواية إلى واقعها المستقبلي.. وبذلك ينجح محفوظ في نقل أيدلوجيته الخاصة إلى فكر القارئ.
** ** **
1 - قاسم، ميزا. بناء الرواية، الهيئة المصرية للكتاب، 1984: ص 130.
2 - نقلا عن: مرجع سابق: ص131.
3 - مرجع سابق: ص43.
4 - محفوظ، نجيب. زقاق المدق: ص42.
5 - محفوظ، نجيب. زقاق المدق: ص44.
6 - مرجع سابق: ص 170
7 - مرجع سابق: ص 210.
8 - محفوظ، نجيب. زقاق المدق: ص45.
9 - انظر المرجع السابق: ص 47-48.
10 - المرجع سابق: ص49.
11- المرجع السابق: ص 209.
12 - محفوظ، نجيب. زقاق المدق: ص209.
13 - قاسم، سيزا. بناء الرواية: ص 141.