سطوة المصطلح تأتي من (الاحتكار) أيضا،كيف يتم ذلك؟ وما هي مجالاته؟ ولماذا يحدث؟ الاحتكار ابتداء هو مصطلح اقتصادي بمعنى بأن سلعة ما أو بضاعة ما يسيطر عليها منتج واحد أو جهة إنتاجية واحدة، وبالتالي سوف لن يخضع سعرها للعرض والطلب، و تسقط في هذه الحالة المنافسة التي تشكل ضرورة لاستمرارية التطوير والابداع ورفع مقدار الإنتاجية. الاحتكار الاقتصادي له تبعاته المختلفة، قد نتناولها- وما يرافقها من مصطلحات- بالتفصيل فيما بعد. ولكن الاحتكار ليس اقتصاديا وحسب، إنه يمتد ليكون سياسيا واجتماعيا وحقوقيا وفنيا وإبداعيا...إلخ
لنسلط الضوء على بعض أنواع الاحتكار:
أولا: احتكار السلطة السياسية:
خلال الانتقال من العبودية الى الإقطاع تفجرت ثورات العبيد التي نادت بالليبرالية أي التحرير، وانضم اليها فيما بعد الأحرار الذين لا يملكون أرضا ولا عبيدا، ثم تبعهم صغار المالكين الذين هم عرضة للفناء بسبب تسلط المالكين الضواري الكبار، القادرين على الاستيلاء على أراضيهم الصغيرة وعبيدهم، ثم انضم الى هذا الحراك الشعراء والفنانون والفلاسفة وأصبح المالكون الكبار أمام أمرين: إما الاستجابة للتغيير أو التمرد العام الذي يحول أملاكهم الى أراض بور، أو خسارة كل شيء. عندما تم التغيير وتحرر العبيد وأصبحوا فلاحين، عاد ملاكو العبيد الأوائل ليصبحوا إقطاعيين كبارا، أي ملاكي اراض كبار، ونصب أكبرهم نفسه ملكا، له مجلس استشاري يتكون من كبار الملاكين أنفسهم ويضع قوانين وقضاة لإبقاء امتيازاتهم مستمرة، ثم أنشأ عسسا أو شرطة لاستخدام القوة عند اللزوم للحفاظ على امتيازاته وأنشأ جيشا للدفاع وأصبح قادرا على الغزو الخارجي أيضا، واستغلال أراض وشعوب أخرى كي يغذي ثروته. لقد أصبح في يده أداة فعالة تسمى سلطة سياسية.
بعد استتباب الأمر للإقطاعيين، شرعوا بالالتفاف حول القيم السامية التي نادوا بها إبان الثورة، وكبلوا الفلاحين بديون تجعلهم رهينة لهم، لا يستطيعون الانتقال من حقل الى حقل ليعملوا لمالك آخر الا بعد تسديدها، وهذه عبودية جديدة.
يحصل الفلاح على نسبة من الانتاج لا تكفيه سوى نصف عام، فيضطر للاستدانة من المالك، ويهلك نفسه كي يكون الانتاج أوفر في نهاية العام، ولكن مع ذلك فإن ديونه تزداد عاما بعد عام ويصبح رهينة (شبه عبد) للمالك.
جاءت الرأسمالية بديلا للإقطاع، وكان من مصلحتها تحرير (الرهائن) من قبضة الإقطاعيين، ليعملوا في الصناعة، فنادت الرأسمالية بحقوق الإنسان (حق الحياة والعمل والاختيار والتعبير والاعتقاد...إلخ)، وتحقق ذلك عبر الثورة الفرنسية وما تلاها من تغيير في أوروبا كلها، ولكن عندما استتب الأمر للرأسماليين فيما بعد، التفوا على هذه القيم وأصبح مفهوم (الإنسان) عندهم هو الذي يملك وليس الذي ينتج.
الذي يملك هو الذي يستحق المدرسة والجامعة والعلاج والحماية والأمن وحتى القوانين. لو سلطنا الضوء حاليا على الولايات المتحدة الأمريكية مثلا، التي تفخر بديمقراطيتها، وبالذات مسألة الترشح للرئاسة نجد أن (القانون) يفرض ألا يترشح للرئاسة من لا يملك ستة ملايين دولار (كاش) على الأقل في البنك. اذا (الديمقراطية) للمالكين وليس للفقراء، والحقوق أيضا، وكذلك الفن والإبداع والمتعة. أصبت بالذهول عندما سمعت أن في عام 2006م ثلاثة صحفيين أمريكيين مرموقين فصلوا من أعمالهم، تعسفا بسبب انتقادهم إسرائيل. أين حقوق الإنسان الأمريكي في هذا؟ أين ما يسمونه ديمقراطية؟
ثانيا: احتكار الحق:
في الرأسمالية الحق مع أصحاب الملايين، كيف ذلك؟ عندما تكون موظفا مثلا وتريد أن تشتري قطعة أرض لتعيش مع عائلتك يجوز لك ذلك، فهذا حق لك، بالرغم من أنك لست من أصحاب الملايين، ولكن ادفع خمسة آلاف دولار للمتر المربع وخذ المساحة التي تريدها وابن كيفما شئت.
قد يبدو الأمر بسيطا، ولكن ستشقى حياتك كلها وتهرم كي تحصر على ذلك المسكن. أما أصحاب الملايين يحصلون على (امتياز) من (السلطة) بعشرة آلاف فدان مثلا، وبدولار واحد للفدان الواحد كي يقيموا بيتا ومزرعة وعزبة ومصنعا وأماكن ترفيه وربما كازينوهات ودعارة.
الحق للمالكين فقط، والسلطة هي أداة للمالكين، فالرئيس والوزراء والقضاة والصحفيون والفنانون يعملون لدى المالكين وليس الفقراء.
يقول البروفيسور الأمريكي نعوم تشومسكي: في الثمانينيات كان عشرون بالمائة من الأمريكيين يملكون ثمانين بالمائة من الثروة، أما حاليا واحد بالمائة من الأمريكيين يملك تسعة وتسعين بالمائة من الثروة، هذا الفارق لابد وأن يؤدي للتغيير.
ثالثا: احتكار الفكر:
أخطر من يستحوذ عليه الملاك هو الفكر فعندما يوجهون المناهج الدراسية والفن والإعلام والأخلاق العامة لمصلحتهم، أي يصبح الفقر قدرا والفن مبتذلا، والإعلام متآمرا، يقودك الى اليأس يكون قد تم بذلك غسيل المخ وأصبحت ممسوخا لا توجد لديك بصيرة لاكتشاف الحقيقة وينتهي بك الأمر كي تصبح رقما لا حول له ولا قوة.
عندما تكون مبدعا وتكتشف الحقيقة وتقاوم الظلم تتهم بالراديكالية، أي أنك تريد أن تلغي الدولة وتعود الى شريعة الغاب بمفهوم (الديمقراطيين)، بينما مصطلح راديكالية، أخذ من الكلمة اللاتينية (Radix)، أي جذر، ومن المفترض أن الراديكالي هو من يحاول أن يكون التغيير جذريا في الصراع، ولكن طمس المعنى وجعل المصطلح على شكل اتهام، يعطيه معنى مذموما.
رابعا: الاستعمار (احتكار مقدرات الشعوب الأخرى):
اذا كان في الدول الرأسمالية الفقير ليس إنسانا والمالك هو الإنسان، فالرأسمال لا يعترف بإنسانية المجتمعات المستعمرة من رأسها الى قاعدتها، ويتغلغل في عاداتها وتقاليدها وأديانها وأعراقها وقومياتها ومناهجها وفنها ليسخرها خدمة لمصالحه.