تفضي موازنة طه حسين بين الشعر والفلسفة، إلى انتقاله إلى المقارنة بين الشرق والغرب، وليس الغرب هنا شيئًا غير اليونان الذين يحيل طه حسين عليهم التطوّر الغربي الحديث بأجمعه. فلقد «ظهر العقل الإنساني في العصر القديم مظهرين مختلفين، أحدهما يوناني خالص هو الذي انتصر وهو الذي يسيطر على الحياة الإنسانيَّة إلى اليوم وإلى آخر الدهر، والآخر شرقي انهزم مرات أمام المظهر اليوناني وهو الآن يلقي السلاح ويسلم للمظهر اليوناني تسليمًا تامًا». وإذا كان طه حسين ينسب العقل الشرقي إلى الشعر، فإنَّه ينسب العقل اليوناني إلى الفلسفة، وينسب إليه التطوّر السياسي الخصب الذي أحدث النظم السياسيَّة المختلفة وأقرّ النظام الديموقراطي ولا يزال أثره قويًّا في أوروبا إلى اليوم الذي أخذ الشرق يتأثر به في نظمه، فقد كانت الفلسفة في نشأتها وفي مجاهدتها للانتصار على الشعر والدين لدى اليونان والتماسها تفسيرًا للكون وفي أثناء بحثها واضطرابها لبلوغ شيء مصدرًا لذلك التطوّر السياسي. وذلك في حين ظلَّ الشرق خاضعًا لنظام سياسي واحد لم يتبدَّل وهو نظام الملكية المطلقة المستبدة.
* * *
أما موازنة طه حسين بين الشعر الغنائي الذي يخلص شعرنا العربي لصفته، والشعر التمثيلي الذي لم تعرفه الثقافة العربيَّة إلا بالتقليد للمسرح الأوروبي في العصر الحديث، فإنَّها موازنة تحيل كما أحالت الموازنة بين الشعر والفلسفة على حقبتين تاريخيتين في الحياة اليونانية، تسبق حقبة الشعر الغنائي فيهما حقبة الشعر التمثيلي التي تمتاز بالديمقراطية والرقي العقلي والفلسفي. ولكن حقبة الشعر الغنائي تلي الشعر القصصي الذي يمثِّل درجة موغلة في السذاجة، حين سيطر في القرنين الحادي عشر والعاشر قبل الميلاد على شعوب كانت ترهب كل شيء وتتأثر بكلِّ شيء وترى في كلِّ شيء إلهًا تخافه.
ولئن قلنا: إن طه حسين يعقد الموازنة من أجل تمام الإيضاح لنشأة الفلسفة لدى اليونان، أو لاختلاف الأنواع الشعرية لديهم، فإنَّ تراتب الحقب في اتجاه يتصاعد بالقيمة بقدر تصاعد التطوّر بالحياة إلى بروز الوجود الفردي وسلطان العقل والنقد، يدلل على الرغبة في رسم مكانة الشعر العربي وقيمته. ولكن هذه الرغبة -فيما يبدو- لا تنم عن عيب للشعر العربي في ذاته بل في سياقه الذي لم يتطوّر بالعقل. وعندئذ فإنَّ العلاقة بهذا المعنى السببي بين الشعر وسياقه تحيل الشعر إلى صدى لواقعه وتنزع عنه التأثير والقدرة على التغيير والتطوير. ولم يقل طه حسين بذلك ولم يقل -أيضًا- بأن الشعر أو الأدب في عمومه وسيلة بل قال: إنه غاية في ذاته. لكن حديث طه حسين عن الشعر أو الأدب الذي يغدو غاية في ذاته ويحدث تأثيرًا هو حديث عن نموذج، ونموذجية الشعر هي نموذجية الشاعر التي تتكشف بما يظهر في دراسات طه حسين من أحكام القيمة على الشعر والشعراء في تمايزاتهم واختلافاتهم المُتعدِّدة.
* * *
ألَّف طه حسين كتبًا مختلفة عن الشعر، فلم تُعنْوَن معظمها بموضوعات أو قضايا أو حالات أو أساليب... الخ وإنما جاءت عناوينها بأسماء الشعراء، أو جاءت أسماء الشعراء مركزًا في عنوانها. والأمر نفسه نجده فيما تفرق من مقالاته الصحفية وأحاديثه الإذاعيَّة التي جُمعت في كتاب تحت عنوان عام، إِذْ نجد عديدًا من المقالات المتعلقة بالشعر معنونة بأسماء الشعراء وهم موضوع المقالات. فهناك -مثلاً- ثلاثة كتب عن أبي العلاء المعري، وكتاب عن المتنبي، وكتاب عن حافظ وشوقي... الخ. ولا يقتصر الاسم على العنوان، بل إن موضوعات الكتاب أو المقال تُتَّخذ من الاسم مدارًا لها في علاقته بالسياق الاجتماعي والثقافي والتاريخي وعلاقة هذا السياق به، وعلاقته بالشعر وعلاقة الشعر به. ولهذا دلالته التي تحيل على العلاقة بين المنهج والنظرية لدى طه حسين، فممارسة على هذا النحو تعني الحسبان للشاعر في تكوينه وموهبته ووعيه ومسؤوليته ومركزية فاعليته.
ولهذا كان الشاعر موضوعًا لأحكام القيمة لدى طه حسين، التي تميّزه في تعينه عن غيره، وتَجرَّد منه ما يتميَّز عن سواه. وأحكام القيمة هذه ترسم نموذجية الشعر الخلاق الذي يَرَى فيه القيمة. وبوسع المرء أن يقرأ لدى طه حسين صفحات عديدة يستحضر فيها صفات شاعر أو فنان أو فيلسوف... أو غيره، بإزاء من هو بصدد الحديث عنه من الشعراء من أجل المقابلة والموازنة التي تنجلي بها وجوه تشابهه واختلافه، ويترتب عليها الإدراك لصفة من امتيازه الأخلاقي أو الفني أو المعرفي أو شذوذه. وليست هذه الموازنة أو المقارنة محدودة بحد فقد يوازن ويقارن طه حسين -مثلاً- بين عربي وفرنسي، وبين حديث وقديم، وبين مجموعة ومجموعة...الخ. وما يهم -إذن- هو الكشف عن الصفات التي تؤول إلى معرفة بالمذاهب والأساليب والنماذج الشخصيَّة والفنيَّة وإلى قيمة تجريدية لها.
* * *
لقد استحضر طه حسين في مقدمة كتابه «سجن أبي العلاء» كتابًا ألَّفه الشاعر الفرنسي بول فاليري عن الرسام الفرنسي ديجاس، والعلَّة التي استحضرها من أجله هي موازنة أبي العلاء به أو موازنته بأبي العلاء. لذلك قال: «لم أرَ بدًّا من أن أترجم هذه الصفحة من صفحات بول فاليري، ومن أن استعيرها بدءًا لهذا الحديث. والغريب الذي لم أكن أتوقعه ولا افترضه أن كثيرًا من صفات هذا المصور الفرنسي، الذي كنت أسمع اسمه وأجهل من أمره كل شيء، تشبه ما ألِفْت وأحببت من صفات أبي العلاء».
ولنلتفت، هنا إلى الوصفين اللذين أسبغهما طه حسين على صفات هذا المصور، وهما أُلْفته لها وحُبُّه إيَّاها في أبي العلاء. فهما وصفان يحملان قيمة تفضيل وإيُثار أفضت إلى تفضيل أبي العلاء وإيثاره، ومن المؤكَّد أنها تفضي إلى حب فيجاس وإيثاره، بحيث تَجرَّد الأوصاف من حبِّ طه حسين وإيثاره لأبي العلاء، نموذجًا تشخِّصه هذه الصفات التي تتبادل معه علة نموذجيته ومعلولها.
أما هذه الصفات التي عقدت بين ديجاس وأبي العلاء علاقة تشابه، فهي «شدَّة الرجل على نفسه إلى أقصى غايات الشدة، وشكُّ الرجل في مقدرته إلى أبعد آماد الشك، وارتياب الرجل بأحكام الناس في أمور الفن، وزهد الرجل في الشهرة وبعد الصيت، وفي الثراء وسعة ذات اليد، وانصرافه عن الحمد الكاذب والثناء الرخيص، وتأجيله لذَّة الظفر بالفوز، وخلقه المصاعب لنفسه، وبغضه للطرق القصار والأبواب الواسعة وإيثاره الطرق الطوال والأبواب الضيقة». وهذه الصفات تشير -من غير شك- إلى نموذج مختلف من نماذج الشعراء الذين تمتلئ بهم ذاكرة شعرنا العربي، خصوصًا كبارهم أو فحولهم الذين ملأوا الدنيا وشغلوا الناس كما فعل كبيرهم المتنبي. وإذا أردنا أن نجمع هذه الصفات في جامع فإنَّها تدلنا على شخصيَّة مستقلة ومسؤولة أتم استقلال وأتم مسؤولية، وإلى ذلك فهي أبعد ما تكون عن الأثَرَة والعبث وأدل ما تمكن الدلالة بها على الإيُثار والكرم والجدية.
ولقد أخذت النموذجية التي تصنعها هذه الصفات تتأكَّد لدى طه حسين في القيمة التي أسبغها على من درسهم من الشعراء وغيرهم من قادة الفكر والثقافة، فهم يصعدون في سلم القيمة ويهبطون فيه بمقدار تحلِّيهم بها أو تخلِّهم عنها. وتنضم إليها صفات أخرى من جنسها أو بالتفرع عنها كالاقتراب من الفلسفة والامتياز بها بحيث ينأى الشاعر عن السذاجة العقلية، والاقتراب من الطبقات الشعبية والمخالطة لها، وقوة الشخصيَّة ووضوحها الذي ينفى الفناء في آخر.
وقد يكون المتنبي أوضح من تصطدم به نموذجية المثقف بالمقاييس التي صنعها طه حسين، وهي صدمة لها أثرها بالحجم الذي تمثِّله حفاوة الثقافة العربيَّة بالمتنبي واحتفالها به. فلم يكتف طه حسين باستحضار المتنبي بقصد الموازنة التي تنجلي الصفات والمواقف فيها على محك التوافق والتضاد، وهو بصدد دراسة أبي العلاء في أول كتاب من كتبه «تجديد ذكرى أبي العلاء» (1915م) بل ذهب إلى تخصيص المتنبي بكتاب (1937).
* * *
ولم يجحد طه حسين المتنبي عبقريته الشعرية، فالمتنبي شاعر فذ في تاريخ الثقافة العربيَّة، ولكن شاعريته هذه لا تعبِّر -فيما رأى- عن شخصيَّة مستقلة ومسؤولة ولا تدلل على الإيُثار والكرم. وهي - في هذا المعنى- نقيض للصفات التي أحب طه حسين أبا العلاء من أجلها. ويكفي أن نقف على وصفه لشعر المتنبي في سيف الدولة، إِذْ يَرَى أن شعره هذا لوحده ديوان خاص «يمكن أن يستقل بنفسه، وهو أن جمع في سفر مستقل لم يكن من أجمل شعر المتنبي وأروعه وأحقه بالبقاء، بل من أجمل الشعر العربي كلّّه وأروعه وأحقه بالبقاء». وليست جودة شعر المتنبي في سيف الدولة وروعته، وجه الامتياز له، فهو من هذه الجهة يساوي -لدى طه حسين- مديح المتنبي لغيره من الممدوحين، ولكنه يَرَى امتيازه في كثرة ما قال في سيف الدولة لوحده، إِذْ ينيف على ثمانين قصيدة ومقطوعة، وهذا مقدار ضخم لم يجتمع على الأرجح لشاعر من القدامى في ممدوح لوحده. وقد انقطع المتنبي إلى سيف الدولة تسعة أعوام لم يمدح أثناءها أحدًا غيره، ولم يقل شعرًا لا يتحدث فيه عنه، أو يتمثله. وإذا كانت هذه الخصلة خاصة بالمتنبي من بين الشعراء، فإنَّ طه حسين يلاحظ تمسك المتنبي بها كُلَّما تحوَّل من ممدوح إلى غيره، إلا أن يأذن له ممدوحه أو يطلب منه.
إنه شعر جيِّد ورائع وكثيف، وشعر متنوع على الرغم من خلوصه لشخص واحد. هكذا يصف طه حسين شعر المتنبي، وهو وصف يوافر عليه أبرز ما يتمدح به الشعراء في الثقافة العربيَّة وأبرز مقوِّمات البلاغة والبراعة البيانية التي جمعتها مؤلفات البلاغة العربيَّة واستقامت بها مقاييس النقد العربي القديم. لكن ما القيمة التي يزنها هذا الشعر في مقياس النموذج لدى طه حسين؟! إنه لا ينفى عنه القيمة فقط، بل يكشف سلبيته الأخلاقيَّة ودلالته على شخصيَّة متهالكة ومفرغة من مقوِّمات المسؤولية والاستقلال وراسفة في الذل والعبودية والأنانية. وقد تكاملت دلائل هذا كلّّه في المتنبي بأكثر ما يمكن الاستدلال عليه، وبأوضح ما يمكن استبيانه عند غيره من الشعراء.
وطريق طه حسين إلى الاستدلال على ذلك في المتنبي، هي موازنته بغيره من الشعراء الذين تكسبوا بالمديح، وليس بأبي العلاء الذي برئ منه. فهو يسجِّل انقطاع طائفة من كبار الشعراء قبل المتنبي منذ العصر الجاهلي لجماعة من الخلفاء وإشراف الناس، ولكنهم لم يقفوا أنفسهم عليهم كما فعل المتنبي مع سيف الدولة ومع غيره من الأمراء والإشراف الذين حموه وأظلوه. ويسرد طائفة من أبرز الشعراء وأسماء ممدوحيهم الذين انقطعوا إليهم لكنهم لم ينشغلوا بهم عن غيرهم أو يمتنعوا عن مديح سواهم أو عن قول الشعر في غير المديح ولم يقف أيّ منهم حياته تسعة أعوام على مولاه أو يتنازل عن شخصيته وحريته كما فعل المتنبي. وكما قاس طه حسين المتنبي على أمثلة الشعراء قبله، فإنَّه يقيسه إلى نفسه وإلى شخصيته، أيّ يقيس المتنبي الشاعر على المتنبي الشخص.
وهذا القياس الأخير يكشف - لدى طه حسين- عمَّا يمتاز به المتنبي من التناقض الغريب بين رأيه في نفسه وسيرته بين الناس. فقد «كان في شبابه لا يطمح إلا إلى الحرية، ولا يطمع إلا في الاستقلال. وهو قد ألقى نفسه في السجن، وعرَّض نفسه للموت في سبيل حريته واستقلاله». هكذا هو المتنبي في نفسه، أو هذه هي صفة المتنبي التي تتنزل منزلة الأصل الذي يبتغي طه حسين لشعره ولسيرته أن يصدقا في تصويره. لكن سيرة المتنبي وشعره -فيما يرى- يناقضان ذلك أشد المناقضة، «فلم يكن يظفر برعاية أمير من الأمراء أو سيد من السادة، إلا نزل عن نفسه، وضحَّى في سبيله بهذه الحرية وذلك الاستقلال». وآية تضحيته بحريته ليست فقط في انقطاعه إليه بالشعر دون سواه، بل هي -أيضًا- في انشغاله بالحديث له وعنه عن الشعر الخالص، أو عن أغراض أخرى للشعر لا يتمثَّل فيها ممدوحه.
- الرياض