ظلّ ديدن العرب المزمن التحالف مع الغريب، دون القريب، بل ربما ضدّ القريب. منذ عرب الجاهليّة، وولاءاتهم (لقيصر) أو (لكسرى)، وصولًا إلى تجربة ملوك الطوائف في (الأندلس)، وثالثة الأثافي التاريخيّة عبر عرب الولاءات الشرقيّة أو الغربيّة في العصر الحديث. ولذا ظلّوا كيانات طفيليّة على صفحة التاريخ، ضعيفة، تتمازقها القوى العظمى على مرّ الأزمان؛ من حيث هم قد ربطوا وجودهم وآمالهم ومصائرهم بتلك القوى، يَرِث بعضها بعضًا، وهم يَعُدُّون النجومَ متسائلين: «تُرى من سيرثنا غدًا من عباد الله الصالحين أو الطالحين؟!» وهذا العقل العبوديّ القاصر يتشكَّل عن مرض حضاريّ، هو ما يشير إليه المؤرّخ الإنجليزي (بازيل دافيدسن)(1) حينما يذكر «...أن تأثير الإدارة الاستعماريّة ظَهَرَ أنه كان طاغيًا إلى حدِّ أن كثيرًا من الأفريقيِّين أصبحوا يصدِّقون الافتراء على منجزاتهم التاريخيّة الخاصّة. ففي داخل القارّة وخارجها كان الناس (الأفريقيّون) يوافقون- أو كانوا، خوفًا، مضطرّين للموافقة- على تصريح الحاكم السابق لكينيا بأن «الأفريقيّين بدائيّون إلى درجة أنهم يمثّلون بالنسبة للحضارة ما تمثِّله تقريبًا ورقة بيضاء»...». وهذا ككلّ الأمراض الصحيّة، لا تختصّ به أُمَّةٌ، بل يظهر متى نجمت بواعثه.
ويستحيل هذا المرض الحضاري كذلك إلى نزوع نحو التماثل القيمي والثقافي مع السيّد. ومن ثَمَّ النظر إلى التميُّز الثقافي، أو الاستقلال القيمي، على أنه شذوذٌ عن العالم، والعالم في تلك المخيِّلة هو ذلك النموذج الغربي، في حالتنا، القُدوة والمثال. وذلك النموذج الغربيّ، القُدوة والمثال، لم يَبْنِ ثقافته وقيمه- بحسب عقليَّتنا الطفوليّة- إلّا على علمٍ محض، وحقائق قاطعة «ما تخرّش الميّه»، كما يقول أحدهم، وعقلانيّة نزيهة، لا أثر لقِيَمه فيها ولا لأديانه ولا ثقافاته ولا ظروف حياته ولا مصالح مجتمعه، البتّة! وكذا كلُّ طفلٍ ينظر إلى كمال أبيه!
ومع هذا، ومع وجوب كشف الأغطية عنَّا، والاعتراف بعيوبنا؛ لأن الاعتراف بالمرض هو أوّل العلاج، فإن الرؤية الشموليّة إلى الأمور، والموازنة بين الاعتراف ونقد الذات والآخَر، تجعل المراقب يذهب إلى أنه، بالرغم من هذه الحقيقة أو تلك في واقعنا العربي والإسلامي ممّا يستحق التعرية والنقد، فإن هناك في المقابل مِن جلّادي الذات، (المازوخيِّين ثقافيًّا)، مَن لا يكفُّون عن تصفية حساباتهم الذاتيَّة المتنقِّصة من العرب والمسلمين، حتى وهم تحت مقصلة العدوان. وكأن هؤلاء وأولئك- المتسترين على أمراضهم ومدَّعي تشخيصها- لا يرون علاجًا إلّا بالانسلاخ من جلودهم! بل إن قرائحهم لتنقدح التذاذًا تحت المقاصل، إن تعلَّقت بـ(العراق)، أو (فلسطين)، أو (أفغانستان). وإذا كان هؤلاء لا يتورَّعون عن تمجيد الآخَر، وتمزيق الذات حتى في تلك الحالات- وفي ذلك التوقيت الذي يشهد فيه حتى المنصفون من الأعداء بالحقّ، واقفين صفًّا ضِدّ الظالم، وإن كانوا والظالم من طينة واحدة، تختلف نِسَب الشرّ أو المصالح فيها- فإن هؤلاء المنسلخين من كلّ انتماء وعقل يتعرَّون أكثر في تلك الظروف، مبرهنين على تجرُّدهم من كلّ القِيَم الإنسانيّة أيضًا. ذلك أن بعض العرب قد ألهتهم حزازات أنفسهم، وأعمتهم خصوماتهم الشخصيّة والحزبيّة، عن أن يكونوا بَشَرًا أسوياء، فامتلأت صدورهم بالحِقد ورؤوسهم بالظلاميّة، وإن زوَّروا أنهم في زمرة التنويريّين، ما تَلَوَّنَ التنوير بقوس قزحهم فقط. تراهم لا يستحون أن يُظهِروا الشماتة في أنفسهم وفي بني جلدتهم، كما يحدث من بعضهم في أحداث (غزَّة) المتوالية، على سبيل المثال لا الحصر. مذكِّرين- حتى في أثناء العدوان على الأهل والأرض- بسماحة الغرب في مقابل بربريَّة العرب وعنجهيَّتهم، متغنِّين بروحانيّة الجزار وشقاوة الضحيّة؛ التي لا تُحسِن الأدب ولا الصمت مع قاتليها، ولا تُريح ولا تستريح من التحرّك مطالبةً بحقوقها، على الأقل في ذبحة مريحة! بالأمس كانت حقوقها تعني الأرض، واليوم أصبحت حقوقها- التي يجب أن تفكّ العالم من شرّ سعيها إليها- لا تتمثَّل إلّا في المطالبة بمجرّد الحياة والتنفّس بسلام.
لهؤلاء المرضى، يمكن أن نسوق شهادةً هنا، ليست من عربيّ ولا من مسلم، ولا من أُصوليّ أو إرهابي، بل من يهوديّ الدِّيانة، أميركيّ الجنسيّة، عالم عالميّ؛ وذلك لكي يتعرَّى تهافت تلك الأصوات الصبيانيّة التي تتضاغَى في الإعلام العربي بين حين وحين، معيدةً تاريخ (ابن العلقميّ) المجيد. والإعلام العربي مشهورٌ بمسرحيّاته العالميّة الفكاهيّة، المتحريّة للكذب والتضليل الركيك، وبخاصّة في الأزمات، منذ (الصحّاف) إلى آخر الصحّافيِّين، معيدين فنون «أكاذيب الأعراب» عبر وسائطها الحديثة. إنها شهادة (البروفيسور نعوم تشومسكي)، أستاذ اللغوي ّات والفلسفة بـ(معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا Massachusetts Institute of Technology)، الذي يقول- في مقالٍ نُشر له في صحيفة (نيويورك تايمز)(2): «أقرّ مجلس الشيوخ الأميركي قرارًا يهدِّد بتعليق المساعدات للسلطة الفلسطينيّة في حال واصلت مبادرتها في الأُمم المتحدة [=مبادرتها للمطالبة بالاعتراف بالدولة الفلسطينيّة]. أمّا سوزان رايس، السفيرة الأميركية لدى الأُمم المتّحدة، فحذَّرت من أنه لا «تهديد أكبر» للتمويل الأميركي للأُمم المتحدة من «احتمال تبنّي الدول الأعضاء دولةً فلسطينيّة»، وَفق ما أوردته صحيفة «ديلي تلغراف» اللندنيّة. وفي الإطار عينه، أبلغ سفير إسرائيل الجديد في الأُمم المتّحدة رون بروسور الصحافة الإسرائيليّة أن اعتراف الأُمم المتّحدة «سيؤدّي إلى اندلاع أعمال عنف وحرب».» وأضاف تشومسكي: «من المرجّح أن تعترف الأُمم المتّحدة بفلسطين ضمن الحدود التي تضمّ الضفة الغربيّة وقطاع غزّة، على أن تُعاد هضبة الجولان إلى سوريا، بعدما كانت إسرائيل قد ضمّتها عام 1981، منتهكةً أوامر مجلس الأمن. وفي الضفّة الغربية، تشكّل المستوطنات والقوانين الداعمة لها، انتهاكًا سافرًا للقانون الدولي، كما تؤكِّده المحكمة الدوليّة ومجلس الأمن. وفي فبراير 2006، فرضت الولايات المتّحدة وإسرائيل حصارًا على غزّة بعدما فاز «الطرف الخطأ!»، أي حركة (حماس)، في الانتخابات الفلسطينيّة، التي كانت حُرَّة ونزيهة بإقرار الجميع. وازداد الحصار شِدَّةً في يونيو 2007 عقِب فشل انقلابٍ عسكريٍّ مدعوم من الولايات المتّحدة للإطاحة بالحكومة المنتخبة. وفي يونيو 2010، أدانت «اللجنة الدوليّة للصليب الأحمر» التي قلَّما تُصدر تقارير مماثلة، الحصارَ على غزّة، واصفةً إيّاه بـ«العقاب الجماعي الذي يشكِّل انتهاكًا سافًا» للقانون الدولي الإنساني. وذكرت قناة (بي بي سي) أن اللجنة «تنقل صورة قاتمة عن الأوضاع في قطاع غزّة: المستشفيات تفتقر للتجهيزات الضروريّة، وانقطاع التيّار الكهربائي يدوم عدّة ساعات يوميًّا، والمياه غير صالحة للشرب»، والشعب سجين طبعًا. ويمثِّل هذا الحصار استمرارًا للسياسة الأميركيّة الإسرائيليّة المطبَّقة منذ عام 1991، والقاضية بفصل قطاع غزّة عن الضفّة الغربيّة، لضمان بقاء الدولة الفلسطينيّة [المحتملة] بين إسرائيل والأردن، رغم أن اتفاقيات أوسلو، الموقَّعة بين إسرائيل ومنظّمة التحرير الفلسطينيّة عام 1993، تحظر فصل القطاع عن الضفّة... إن المبادرات الدبلوماسيّة، على غرار استراتيجيّة الدولة الفلسطينيّة، والأعمال المناهضة للعنف عمومًا، تهدِّد أولئك الذين يملكون احتكارًا افتراضيًّا للعنف. الولايات المتّحدة وإسرائيل تسعيان إلى دعم مواقف يتعذَّر الدفاع عنها: الاحتلال وما ينجم عنه من تقويضٍ للإجماع الشامل والدائم على تسويةٍ دبلوماسيّة.»
يا لك من إخوانيّ، أصوليّ متطرّف، يا تشومسكي!
ويبدو أنك أيضًا، كغيرك من العالَم، «تتخابر» مع (حماس).. تبًّا لك!
** ** **
(1) (1962)، إفريقيا مدخل إلى القارّة، (نيويورك: ؟)، 447. عن: باتلوف، إدوارد، مقال في مجلّة «قضايا الفلسفة»، موسكو، العدد 12، 1964. انظر: مروة، حسين، (1978)، النزعات الماديّة في الفلسفة العربيّة الإسلاميّة، (بيروت: دار الفارابي)، 9- 10.
(2) أعيد نشره مترجمًا في صحيفة «الاتّحاد»، الإماراتيّة، الاثنين 18 يوليو 2011، ص28، تحت عنوان «الاعتراف بالدولة الفلسطينيّة.. تسونامي في إسرائيل»، وهو على الرابط:
http://www.alittihad.ae/wajhatdetails.php?id=60319#ixzz1STKBowLX
p.alfaify@gmail.com
http://khayma.com/faify
- الرياض