كثير من الناس في البلدان النامية يسمعون، أو يقولون عن مشاريع عديدة في بلدانهم أو مؤسسات يجري التخطيط لها، ويدفع في الميزانيات لها الأموال الطائلة: «... لكنه لم ير النور»؛ تعبيراً عن فشل تنفيذ المشروع، أو العجز عن إقامته في وقته المحدد، أو بصورته التي يتصورها الناس المخططون له أو المستفيدون منه.
وعندما ناقشت أحد الأصدقاء في هذا الشأن، وكانت نبرتي تشاؤمية، اكتشفت أنني كنت متفائلاً قياساً إليه. فقد أمطرني بنظرات، ثم أعقبها بمقولات حارقة: «أولئك الناس يحسنون الظن بأصحاب المشاريع والمخططين والمنفذين؛ وإلا فهل هناك نور أصلاً، حتى يصل إليها؟ هي أرزاق يتوازعها أصحاب النفوذ، فيبعثرون شيئاً منها في مواقع عينية: أرض تحمل لوحة تصدأ من مر السنين عليها، وهي تنبئ عن فكرة مشروع ما، ثم بعض المباني الهزيلة التي تذر الرماد في العيون، دون التفكير فيما يناط بها من وظائف، أو ما يلزم لها من خدمات. وقد يصل الأمر إلى مبنى يقوم بعد طول انتظار، لكن بعض خدماته تكون ناقصة، أو غير موجودة، وكأن التفكير فيه كان مفاجئاً، ولم يطل به الانتظار إلى سنوات عجاف. وتبدأ الإصلاحات من حوله، والحفريات التي تكون بدعوى إيصال الخدمات، أو توزيع ما تبقى من الغنائم».
قلت له: ليس لدي في الواقع ما أجيب به عن تساؤلاتك؛ لكن والأمر كذلك، فقد تذكرت الآن صاحبنا الحبيب جورج أورويل الذي حدثتك عنه من قبل، صاحب الروايات الاستشرافية البارعة من أمثال: «مزرعة الحيوان»؛ «عام 1984»، وفي الأخيرة تنبأ بوجود ما أسماه «الأخ الأكبر» الذي يراقبك في كل شيء. وهو في تنبؤاته يحاول أن يصور أوضاع المجتمعات في المستقبل، وأنا أرى بأنه قد تحققت بعض تلك التنبؤات على مستوى الكون. بل وقد أصبحت واقعاً في العصر الحاضر، وما يدعم الشعور بها هو انتشار النكت لدى الشعوب التي تتمادى سلطاتها في الأعمال الاستخباراتية في الداخل والخارج؛ مثلما تنبئ تلك النكتة عن الطفل الأمريكي، الذي رآه رئيس الولايات المتحدة الأمريكية، وهو يحمل معه هدية، فسأله: من أعطاك هذه الهدية؟ فقال: والدي. فرد عليه الرئيس: لا، الذي اشترى لك الهدية هو عمك!
لكني سأضيف في هذا المجال إلى ما تنبأ به في هذا العمل الروائي من أن الأخ الأكبر سينشئ وزارة للحقيقة وأخرى للحب... طبعاً كل ذلك من أجل احتكار الحقيقة، وتوزيع مناقب الحب على المحظيين دون غيرهم. وأقول بأنه من أجل أن ندخل مجتمعاتنا النامية إلى التصور، فإن علينا أن ننشئ إذاً «وزارة النور»، التي تكون مهمتها إدخال النور إلى تلك الأنفاق التي يضيع فيها الإنفاق، وتضيع معه آمال البشر بحياة سعيدة؛ وكذلك وزارة أخرى نسميها: «وزارة الشفافية»؛ تكون مهمتها التصدي لدهاليز الغموض التي تحيط بمصادر القرار، وأولويات الاهتمام في الأمور الاقتصادية والاجتماعية والصحية والرياضية، مما يرغب الناس في معرفته، والتأكد من اختراق حجب التعمية، وقوائم الفذلكات والتبريرات للتحوير، والتأخير والولادات المتعسرة. وقد يضاف إلى تلك الوزارتين إدارات تنفيذية لحصر قدرات القائمين على المشاريع العامة.
كم هو عصيّ هذا النور، لماذا لا يهبط علينا؟ وكم هي عصية تلك الشفافية، لماذا لا تتعزز عندنا؟ آه ... ربما تكون عندي إجابة، فلكون «النور» مذكر، و»الشفافية» مؤنث، فقد يكون تصدى لها دعاة الفضيلة لمنع الاختلاط بينهما. لكن «الفضيلة» أيضاً مؤنث، وقد يصيبها داء الاختلاط مع «المال» أو «الجاه» أو «العنف»، فتصبح هي في موضع الشك والعياذ بالله!
- الرياض