اليوم في كل العالم لا يمكن إغفال ما تمثله مواقع «التواصل الاجتماعي» من تأثير في حركة الرأي العام أو تشكله أو تحفيزه.
ويعود هذا التأثير إلى عدة عوامل؛ عامل العدد، عامل السرعة،عامل التشاركية، عامل التوفر،وعامل الاختفاء.
وعوامل التأثير تستمد من خصائص تلك المواقع التواصلية فهي مفتوحة أمام الجميع للدخول إليها دون شرط أو قيد،وسهولة التسجيل تتبعه سرعة الانضمام لتلك المواقع.
ومما ساعد في هذين الأمرين توفر الأجهزة فيستطيع الشخص أن يتواصل مع هذه المواقع من خلال حاسوبه الخاص أو نقاله الخاص أو ما يُستحدث كل يوم من أجهزة ذكية تسهل على الفرد التواصل مع هذه المواقع في أي مكان وفي أي حالة.
أما العامل الأهم في إنتاج تشاركية الفرد مع هذه المواقع فهي خاصية «الاختفاء» والاختفاء بدوره يوفر للفرد أمرين؛ الأول إمكانية الاكتشاف والتجريب والاختباء في هذه الحالة حماية له من ضريبة التعريف، وتلك الحماية تضره أكثر مما تنفعه بالتقادم،فالتعود على الاختباء يُولّد «التنكير»، و»التنكير «بدوره يحوّل المُؤثِر إلى «هامش»؛فالعيش في الظلمة يكسب العمى.
كما أن الاختباء يُشجع الفرد على الاستهانة أو التجرد من مسئولياته الأدبية والأخلاقية والفكرية.
والأمر الآخر؛ الاختفاء يُمّكن للمرء من طرح أفكاره بكل حرية وتطرفية تحت «اسم مستعار» فيسلم من «المساءلة والعقاب»، وقبل ذلك يؤسس له عالما افتراضيا.
وبذلك تُصبح مواقع التواصل الاجتماعي هي بديلة «لديمقراطية الشارع».
وهذا الأمر ليس سارا برمته فله سلبياته.
إن أهم ما يُميز الديمقراطية الثقافية هي «المفاعلة عبر التقابل» لا التشارك عبر «الافتراضي»، وتلك المفاعلة بالمواجهة هي التي تبين لنا مستوى ونوع المكتسب التفكيري والسلوكي للفرد ومدى تطورهما أو تخلفهما.
فتحويل الافتراضي إلى واقعي له مخاطر، لأن الافتراضي ليس تجربة بقدر ما هو فكرة نصفها مبهم ونصفها عشوائي ولذلك فتحويل الافتراضي إلى واقعي غالبا ما يؤدي إلى الفوضى والهدم.
كما أن نقل الواقعي إلى الافتراضي أيضا له مخاطره أهمها أن ذلك النقل يشجع الفرد على إفراغ عدائيته نحو المجتمع وعنفه ويحرضه على الانتقام من المجتمع أو يحرضه على الانسحاب من المجتمع.
إن قيمة «التشارك والتفاعل» تكمن في «الإنجاز» ووجود هذه القيمة مهم في فاعلية تجويد «كفاية ناتج» مواقع التواصل الاجتماعي.
كل وسيلة إعلامية تحقق قيمتها من خلال تأثيرها على المجتمع والتأثير غالبا لا يتم إلا عبر التشاركية والتشاركية بدورها لا تتحقق إلا من خلال «الأكثرية».
وقد يرى البعض أن الأكثرية ليست بالضرورة مُنتِجة للتأثير والتشاركية، وهو قول له محله من الصواب،لكن علينا أن نفرق بين «الأكثرية المتحركة» و»الأكثرية الساكنة». أما كيف نفرق بين «الأكثرية المتحركة» والأكثرية الساكنة»؟
فالإجابة هاهنا ترتبط بما يفهمه كل منا بدلالة الحركة ودلالة السكون، والفهم يمكن تحصيله من خلال المؤشرات.
إن تسجيل الشخص في مواقع التواصل الاجتماعي هو مؤشر لرغبة ذلك الشخص في الانتقال من دائرة السكون إلى دائرة الحركة؛ ومن العزلة إلى التشارك ومن الصمت إلى النطق.
وكلما ارتفع عدد المسجلين في مواقع التواصل الاجتماعي ارتفع مؤشر بوجود الأكثرية المتحركة.
وهي أكثرية مالم تُقنن بضوابط تحولت إلى مصدر للفوضى الثقافية والسلوكية ودافع للتطرف والعنف.
لكن علينا أن ننتبه إلى أمر ما وهو أن «الحركة» لا تعني بالضرورة «التقدم إلى الأمام» فالدوران حركة والتقهقر إلى الخلف أيضا هو حركة.
وبذلك أكرر ما قلته سابقا أن أهمية الحركة هنا تعتمد على قيمة الإنجاز،كما أن أهمية التشارك تعتمد على قيمة الإنجاز.
والانجاز هنا يمكن تمثيله بعدة أمور يجب أن تٌحسب ضمن معايير جودة «كفاية ناتج «مواقع التواصل الاجتماعي».
منها قدرة ناتج مواقع التواصل الاجتماعي على تشكيل رأي عام مؤثر ومؤّدي إلى تغير وتغير، وقدرته على نشر ثقافة الاختلاف ، وقدرته على إنتاج أنماط تفكيرية وثقافية تدعم أدبيات حرية التفكير والتسامح الفكري ،وإنتاج سلعة ثقافية قابلة للتطبيق المعرفي.
لاشك أن «مواقع التواصل الاجتماعي» أسهمت بصورة كبيرة إن لم تكن الإسهام الرئيس في «الثورة» على «الخطاب الثقافي التقليدي»
لكن يظل السؤال ما مدى قيمة «كفاية ناتج» «الثورة الثقافية عبر مواقع التواصل الاجتماعي»؟.
وقبل الحديث عن قيمة «كفاية ناتج « مواقع الاتصال الاجتماعي أريد أن أوضح نقطتين. النقطة الأولى هي ماهو عامل التأثير في «التفاعل الاتصالي» طبيعة الرسالة أم خصوصية آلة نقل الرسالة؟.
أي هل الانفتاح على التشارك هو حاصل ما تتضمنه الرسالة الثقافية أم حاصل طبيعة آلة نقل الرسالة الثقافية؟.
وهل الأمر يختلف في الحالتين؟ بالتأكيد يختلف؛لأن غلبة تأثير الآلة على الرسالة الثقافية تُدخل الرسالة الثقافية مأزق التسلية والترفيه بدلا من دورها الرئيس الداعم لبناء وتشكيل الوعي الجمعي ،وكلما ضعفت الرسالة الثقافية مقابل استقواء الآلة الناقلة لها زاد الخطر على قيمة الرسالة الثقافية كفاعل لتشكيل وعي العقل الاجتماعي.
الآلة لا تملك عقلا وروحا، العقل والروح من صفات الرسالة، ومتى ما غلبت الآلة على الرسالة الثقافية أورثت مستخدميها خصائصها،فالمغلوب يرث خصائص الغالب،والخطورة هنا هي أننا سنجني جيلا لا يملك عقلا وروحا، وهو ما يعني فقدان الجيل تقدير قيم الهوية والانتماء والتاريخ.
إن أصعب أنواع الاستعمار استعمار التقنية لذواتنا لأنها تسلبنا قيمة الروح والعقل وتربينا على الجمود والتطرف والعنف مالم يكن هناك ضابط «لرمانة الميزان».
قد يرى البعض أن «خصوصية الآلة» هي التي تؤثر في طبيعة الرسالة،وهذا الرأي يُدعم بحجة أن عصور التغير والتحول ارتبطت أسماؤها بالآلة التي أسهمت في ذلك التغير والتحويل من عصر الآلة مرورا بعصر التلفزيون وعصر الفيديو وعصر الكمبيوتر وعصر القنوات الفضائية وصولا إلى عصر الفيسبوك والأجهزة الذكية وتوتير.
لكننا لا نغفل أن عصر التنوير سار جنبا بجنب مع عصر الآلة أو عصر الصناعة، وعصر الحداثة سار جنبا بجنب مع عصر التلفزيون والفيديو وعصر ما بعد الحداثة سار جنبا بجنب مع عصر القنوات الفضائية ؛ وعصر العولمة سار جنبا بجنب مع عصر قنوات التواصل الاجتماعي الفيسبوك وتوتير والأجهزة الذكية ولذا تبدو عملية الفصل كما هي عملية توزيع الإيصال شبه معقدة بالتداخل ومتواليات الارتباط.
فهل فكر ما بعد الحداثة هو حاصل القنوات الفضائية أم أن القنوات الفضائية هي حاصل ما بعد الحداثة؟
والأمر كذلك بالنسبة للفكر العولمي وما صاحبه من وسائل التفاعل الاتصالي والتواصلي كالفيسبوك والأجهزة الذكية وتوتير،فمن شكّل من؟ ومن له السبق في توجيد الآخر؟.
قد يقول قائل إن النظرية تسبق التطبيق وقد يرى آخر أن التطبيق أحيانا يولد النظرية.
لاشك أننا لسنا أمام جدلية مشابهة لجدلية «البيضة والدجاجة»،إنما أمام أزمة كيفية ترتيب أولويات صناعة التأثير ،أو أمام أزمة ارتباطنا «بفوبيا الأولوية».
والنقطة الثانية هي أننا في الدرس الاتصالي والتفاعلي تعلمنا أن عملية التأثر والتأثير تتوزع بين ثلاثة فواعل المرسِل والرسالة والمستقبِل، ولم يكن لأثر وسيلة نقل الرسالة ووسيلة الاتصال بين فاعل الإرسال وفاعل الاستقبال حيزا يُذكر في الدرس الاتصالي أو تبيان دورها في الكفاية التفاعلية.
وهذا ما جعل سؤال «هل النص يخلق وسيلة التعريف به أو أن الوسيلة هي التي تتحكم في خلق خصوصية النص» غير متابع بصورة جدية من الدراسات اللغوية والخطابية.
ولعل مرجع هذا العوار يعود إلى ما تعودنا عليه أن الأشياء لا تستمد فاعليتها وقيمتها إلا من بشريتها باعتبار أن البشري هو مُوجِد الوسيلة وخارج تلك البشرية لا يُحسب للأشياء مؤثر فاعل أو جذر قيمة، وهذه هي إشكالية غياب رمانة الميزان في الكفاية الخطابية لمواقع التواصل الاجتماعي.
- جدة