لم يكن البحث في الأدب ودرسه بمعزل عن التحوّل الكبير الذي شهدته منظومة المعرفة البشرية.. فالمطلعون على تاريخ نقد الأدب أو درسه يدركون أنه قد مرّ، مقتفياً للأطوار التي اقتفت فيها العلومُ الرخوة العلومَ الصلبة، من الدرس البلاغي الانطباعي القديم إلى رفع لواء التعلمن الحديث مروراً بالوضعية الصّرف والمزج بين الوضعية والذوق من منظور تاريخي والحتمية الكونية حتى إذا وصلنا إلى أيامنا هذه ألفيناه يكتسب من التهذيب ما جعل العناية به تعدّ، جملة وتفصيلا،ّ إحدى العينات التي تبدو فيها المغامرة المعرفية البشرية قابلة لمزيد من التدبّر.
فالأدب هو الموضوع البحثي الذي ظل عصيّا عن الضبط والتحديد حتى إنه قيل هو «ما يدرس على أنه أدب» أو « ما يقرأ قراءة أدبية» أو « ما اعتبر في يوم من الأيام أدبا». وهو المبحث الوحيد الذي لا تُعرَف، على وجه الدقة، الغاية التي تُطلبُ من درسه حتى أن ابن خلدون قد ذهب، منذ قرون عديدة، إلى أن نتائجه «تظهر في غيره». وما دام الموضوع مستعصياً على الضبط والغاية المطلوبة ممتنعة عن التحديد كانت طريقة الدرس ممتنعة أيضاً عن الانحصار في إجراء من الإجراءات.
ولئن كان هذا من الأسباب التي جعلت الدراسات الأدبية تأتي على حظ من الاختلاف والتباين والتضارب تحار في استساغته الأذهان وهو ما تلطف بعض الحذاق من النقاد القدامي في التعبير عنه بذهابهم إلى أن الشعر قد خصّ بأن يتكلم فيه عالم وجاهل (الآمدي) فإنه يرجع، من بين ما يرجع إليه، إلى أن فهم الأدب ودرسه قد ظل يراوح (على حاشية من الوضوح) في المجال الذي كانت قد ضبطته العلوم الصلبة في إحدى المراحل التي مرت بها، نعني مرحلة قيس المباحث المدروسة بالأهمية والنفع والنتائج الملموسة.
هذا الفهم يبعد، رغم الانتشار الذي مني به، عن الانطباق على الأدب. ومما يمكن الاستدلال به على ذلك تقليبُ النظر في إحدى الوظائف التي درج الناس على الاعتقاد في أن الأدب ينهض بها.. ولتكن هذه الوظيفة ما يصطلح عليه بالتغيير والتهذيب (تغيير الأذهان بما في النصوص الأدبية من معرفة و تهذيب الأذواق بما لحسنها من تأثير). فمع أن معظم الناس، من مختصين وغير مختصين، يعتقدون أن الأدب يحدث تغييراً فإنه لا سبيل إلى أن ينكر واحد منهم أن ذلك التغيير المفترض الذي يحدثه لا يقبل، لضآلته، أن يقاس بالتغييرات التي تحدثها تطبيقات العلوم في حياة الناس. ذلك أن المعارف التي تحملها نصوص الأدب لا وجه لمقارنتها بالمعارف التي توفرها العلوم. وذلك أيضا أن المتعة (وهي في الغالب تفهم الفهم الذي يجعلها سلبية مطبخية) لا وجه لأن تقاس، هي الأخرى، بمتع كثيرة يوفرها غير الأدب من النشاطات الفنية. وهذا يعني أن الاكتفاء بالنفع والمتعة في دراسة الآداب إنما هو اكتفاء بأدنى ما تتوفر عليه وأصغر ما قد تنهض به.
ومع هذا فإننا نجد علماء في العلوم «الصلبة» نوابغ يعترفون، في بعض الأحيان، بأنهم «يستفيدون من الشعر». وما لم نحمل مثل هذه الاعترافات، وهي ليست بالقليلة، محمل المجاملة تساءلنا، مستغربين، عمّا يمكن أن يستفيده العلماءُ من الشعراء. فبينما يشتغل العلماء على الملاحظة والفرضيات والمقدمات والنتائج ويصرفون همّهم إلى الاستدلال الصارم والدقيق يبدو الأدباء مهووسين بتنضيد الكلام ورصفه على المعهود من وجوهه وغير المعهود.. وبينما يلازم أولئك الواقع الملموس والظواهر القائمة يستنطقونها عمّا يحكمها من قوانين، يهوّم هؤلاء في غير الكائن من الدّنى والأكوان. وبينما يتقيّد هؤلاء بالنافع والقابل للتثبت منه لا يتقيد أولئك من هذا بشيء فكلامهم ادعاء محض واختلاق خالص وقائعَ وصفات. لا يمكن إذن أن يكون الذي يدّعي علماء أفذاذ أنهم قد استفادوه من الشعر معرفة علمية هي من صميم اختصاصهم.
الفرق بين عملي العلماء والشعراء، وهو فرق يتضمن جواباً عن التساؤل الذي طرحنا أعلاه، أن الشعراء يحافظون، بالإشارة والتلميح أو التصريح الموغل في الخيال، على احتمالات وبدائل لم تدخل بعدُ، وقد لا تدخل أبداً، في ما سبق للبشرية أن خبرته من علاقتها بالوجود بينما يشتغل العلماء، سواء في مرحلة الفهم والتفسير أو مرحلة التعليل والتحويل اللتين أصبحتا متقادمتين أو مرحلة التدخل والتحوير الحالية، على ما كان وجوده قد حصل لتهذيبه أو تطويره وتحويله نحو مزيد الانتفاع به. أفق العلماء محدود بالموجود وأفق الأدباء متجه إلى البدائل والاحتمالات المختلفة عن الموجود للحفاظ عليها بدائل واحتمالات لا غير حتى إذا ما استنفد الموجود الحاصل بَعدُ طاقاته وانسدت أمامه جميع الآفاق كان إمكان تلك البدائل والاحتمالات حاضراً جاهزاً لأن يحلّ محلّ الموجود آفاقاً للمعرفة البشرية والتنظيم الاجتماعي والاقتصادي جديدة . وإذا ما رغبنا في تقريب هذه الفكرة من الأذهان مثلنا لها بشعراء العربية الكبار يركبون الضرورة ويتعمدون استعمال المنتهك للقواعد ممّا تسمح به اللغة نفسها دون أن يكون بهم عجز عن تفاديها وذلك استئناسا بالإبقاء عليها بدائل وتحسّبا لليوم الذي تأتي فيه الحاجة ماسة إليها.
لم يكن هذا الفهم غائباً تماماً عمّا سلف من تعامل مع الأعمال الأدبية ففي كثير من الدراسات النقدية نجد نقاداً لا يُستهان بهم ينوّهون بقدرة الأدباء على سبق عصورهم ذاهبين إلى أن تكهنات قد أفصحوا عنها أصبحت بعدهم تجد طريقها إلى التحقق والحصول.
غير أن بقاءهم متمسكين، وفقا لآفاقهم المعرفية، بأن للأدب وظيفة معرفية نفعية شبيهة بالتي تنهض بها سائر الأعمال غير الأدبية قد غيّب عنهم ما يختص به من دونها. فالمعرفة، مثل الإمتاع، وظيفة يشترك فيها الأدب مع سواه، فهي ليست من خاصياته الخاصة. ونهوضه بها، متى اكتفينا به منه، يردّه إلى ما يشترك به مع سواه ويصرف عما هو من مقوّماته فرادته. أما الذي يختص به دون أن يشاركه فيه سواه فهو، مثلما ذكرنا سابقاً، العمل على أداة الوعي والإدراك (اللغة) من ناحية والحفاظ، من ناحية ثانية، على البدائل والاحتمالات ممكنة بدائلَ واحتمالات بصرف النظر عما إذا كانت تتحقق يوما أو تقبل التحقيق كلياً أو جزئياً.
يبدو أن التفطن إلى هذه الوظيفة المتمثلة في الحفاظ على البدائل والاحتمال قائمة ممكنات قد بدأ يعمل على انتشاره استئثارُ نمط واحد في التفكير والسلوك بالهيمنة على العالم هيمنة لم يسبق لها مثيل. إنه النمط الذي أصبح يفرضه استعمال اللغة الإنجليزية على النطاق العالمي. فاللغة ليست مجرد أداة للتخاطب محايدة. إنها تحمل طريقة في إدراك العالم والإحساس به والتفاعل معه يتكيف بها المرء تكيّفاً عميقاً. وهذا لا تكشف عنه فقط التصريحات الكثيرة الصادرة عن أصحاب القرار في الولايات المتحدة بضرورة الحفاظ على تماسك اللغة الإنجليزية في المرتبة الأولى عالميا وعملهم على استمرارها فيها وإنما تنبّه إليه، من القرن التاسع عشر وعلى امتداد القرن العشرين دراسات لسانية كثيرة أنجزها لغويون من قبيل «هومبولت» و«سابير» و«وورف» واستفاد منها علماء من قبيل «يامسليف» و«فوسلير» و«ترييي» و«وبالّي» و«أولمان» أو لغويون فلاسفة من قبيل «كاسيرير» عند وقوفهم على العلاقة المتينة بين اللغة والفكر بالتأمل والتمحيص. والذي عندهم جميعا أن اللغة تكيّف الفكر وتنظمه، على طريقتها، في التفاعل مع الواقع الموضوعي. معنى هذا أن سيطرة لغة واحدة هو، في آخر الأمر، سيطرة لنمط واحد من التفكير وزجّ بالبشرية في نفق واحد فيه لون واحد من التفاعل مع الوجود. وهذا النمط الواحد هو الذي وقف الأدب ضده، من قديم الزمان، عند حرصه على الحفاظ على بدائل واحتمالات وممكنات أخرى استئناسا بها واحتياطا ليوم قد تبرز فيه الحاجة ملحة إليها. جوهر الأدب إذن مناهض في جوهره لاستبداد النمط الواحد في التفكير والثقافة الواحدة.