Saturday 21/12/2013 Issue 422 السبت 18 ,صفر 1435 العدد

من يراقب من في الصحافة السعودية؟ (4-4)

(24) شيزوفرينيا الثقافة السعودية!

الشيزوفرينيا التي تميز الحياة السعودية لا يمكن توضيحها بصورة أكثر من مسابقات شد الحبل بين المسؤولين مثل الأمير تركي الفيصل صاحب العقل الإصلاحي المتدين والمستنير الذي طالب الإعلام باستمرار بأن يقوم بدوره في الرقابة العامة، وبين مسؤولين آخرين قاموا بفصل 3 رؤساء تحرير في سنة واحدة لنشرهم مواد (غير مقبولة) في نظرهم ويواصلون محاولة إسكات قلة من الكتاب الجادين والمثيرين للجدل الذين بدأوا يبرزون بالرغم من تلك الظروف الثقافية غير الصحية. ومثل معظم أنماط الحياة في السعودية، الجميع ينهمكون في مبارزات وهمية وسباقات شد حبال متخيلة.

(25) إنجاز مهم في تاريخ الصحافة السعودية

الإنجاز الأبرز في تاريخ الصحافة السعودية حتى الآن حدث بعدما شنت الصحف حملة غير مسبوقة لمحاسبة المسؤولين عن وفاة 15 طالبة في حريق مدرسة بنات في مكة في مارس 2002. بعدما منعت الشرطة الدينية الرجال المارين من إنقاد الفتيات من الاحتراق حتى لا يحصل اختلاط.

المارون هرعوا إلى المدرسة ومعهم جراكن مياه ولكن تم منعهم من قبل الشرطة الدينية. أحد الصحافيين أطلق على الهيئة (هيئة الأمر بالموت والنهي عن الحياة) في عموده اليومي. وفي النهاية تم فصل رئيس تعليم البنات وتم إلغاء تلك المؤسسة بالكامل وتحويلها جميع مسؤولياتها لوزارة التربية والتعليم. (تعليق المترجم: تفاصيل هذه الحادثة كانت ولا تزال محل جدل كبير ولا نستطيع أن نجزم بدقة رواية المؤلف لعدم عثورنا هنا في الدار البيضاء على مرجع محايد أو رواية رسمية مؤكدة. انتهى تعليق المترجم)

(26) ونجحت الصحافة السعودية في فصل مسؤول كبير

لأول مرة في تاريخ الصحافة السعودية نجحت حملة صحافية بإقناع الحكومة بفصل مسؤول كبير وهو رئيس رئاسة تعليم البنات التي كانت تشرف عليها المؤسسة الدينية الوهابية حيث تم ضمها لوزارة التربية والتعليم الخاصة بتعليم الذكور. ووصلت أرقام توزيع الصحف عنان السماء. ثم صدرت فجأة أوامر لجميع الصحف بالصمت التام عبر سلسلة من المكالمات من وزارة الإعلام.

وفي السعودية كما في الولايات المتحدة، وفرت الحرب على الإرهاب عذراً مناسباً لتقليل الحريات الصحافية، وهي كارثة عظيمة للمثقفين في أي بلد توجد فيه رقابة صارمة على المطبوعات. وعادت الأمور كما كانت عليه سابقاً ليصبح نقد الشرطة الدينية تابو.

(27) فشل الليبراليين في استغلال الهجمات الإرهابية

الهجمات الإرهابية والتفجيرات في السعودية التي شنها متطرفون دينيون لم ينتج منها نصر وتفوق إعلامي لليبراليين كما توقع البعض في البداية، ولكن بدلاً من ذلك حدثت محاولة ومناورة ذكية وناجحة من المؤسسة الدينية للتفريق بين مبادئها وما حدث من إرهاب وهي استراتيجية ماهرة نجحت بفعالية مرة أخرى بتهميش مزاعم الليبراليين.

خشيت بعض القيادات الدينية المتصلبة أن يؤدي الضغط الصحافي المتزايد إلى إخراجهم من الحياة العامة؛ وصدر بيان من بعض العلماء قال إن الكتاب الصحافيين المتطرفين - وهو وصف مذهل وغير مسبوق لليبراليين - أنفسهم كانوا يستغلون الحوادث الإرهابية لمهاجمة المؤسسة الدينية. المفتي العام (سماحة الشيخ) عبد العزيز آل الشيخ، رفض علانية الدعوات لحل شرطة الأخلاق. الكتاب الإصلاحيون تم إسكاتهم، كما تم بأسلوب (أورويلي) مرعب إعادة تعريف مصطلحات (التطرف) و(الاعتدال). (تعليق المترجم: (أورويلي) نسبة للروائي البريطاني العظيم جورج أورويل واسمه الحقيقي إريك آرثر بلير (1903-1950) ، والذي كان أول من ابتكر روائيا فكرة (الأخ الأكبر) ليرمز للرقابة القمعية وابتكر أيضا فكرة تزييف التاريخ بما في ذلك التلاعب بمعاني المصطلحات، وكل ذلك في رواية (1984) المذهلة التي صدرت عام 1948. انتهى تعليق المترجم.)

(28) صدور وبروز جريدة (الوطن) السعودية

ولعل أبرز تجل لما يمكن أن يسمى بـ (ربيع براغ) في الصحافة السعودية، هو صدور جريدة الوطن التي تنشرها عائلة الفيصل الإصلاحية والمثقفة من الأسرة الحاكمة ومعاركها المشهودة مع الشرطة الدينية قبل أن تبدأ الهجمات الإرهابية في السعودية، وينتج منها ما يسمى بـ (الحرب على الإرهاب).

عندما صدرت الوطن عام 2000، فتحت آفاقاً جديدة للصحافة السعودية كانت مغلقة تماماً من قبل وكان شعار الصحيفة (اللوغو) هو سهم يقطع خطا أحمر يرمز للاستعداد لتجاوز الحدود التقليدية في الصحافة. ولكن شعبيتها الضخمة التي اكتسبتها بسرعة وبجدارة لا تضاهيها في السعودية أي جريدة لها علاقة في الأصل بطاقمها التحريري المتميز وإخراجها العصري، وتغطيتها الجريئة غير التقليدية للأحداث الداخلية والخار جية.

الوطن لم تتجاوز الخط الأحمر عبر نقد بعض الشخصيات الكبيرة مثلاً، ولكنها قاربت من فعل ذلك حقاً! الوطن ميزت نفسها أيضاً بعدم تحيزها لتغطية أخبار المنطقة التي تأسست فيها، وهي منطقة عسير التي توجد جنوب غرب السعودية، ما أكسبها جمهوراً وشعبية جارفة في جميع المناطق بخلاف باقي الجرائد التي يكون جمهورها من المنطقة نفسها.

(29) جمال خاشقجي: رئيس تحرير عصامي ومهني

جمال خاشقجي رئيس تحرير الوطن الشهير، كان زميلاً سابقاً لي في عرب نيوز. جمال لم يمكث في منصبه في الوطن سوى بضعة شهور، بعدما شن حملة عنيفة ضد الشرطة الدينية وتم فصله من منصبه. خاشقجي ليس صحافياً سعودياً عادياً. لقد عمل مراسلاً في السودان، أفغانستان، الجزائر، والكويت. كما قدم تغطيات متميزة من جبهات صراع متعددة. وهو واحد من القلة بل ربما في الحقيقة رئيس التحرير السعودي الوحيد، الذي وصل إلى القمة بعصاميته وبجهده الشخصي، وصعد بتدرج السلم من أوله عبر خبرات صحافية مهمة ومتراكمة، من دون أن يلجأ للتملق عبر كتابة مقالات احتفالية وتمجيدية. إنه شخص ذكي وصحافي واع يعشق بعمق (المهنة) (Profession) ويعشق بجنون وطنه. إضافة إلى كل هذا فإنه رجل صالح ومتدين ويؤيد بشجاعة وجرأة بعض سياسات أمريكا حتى عندما غزت العراق، لأنه ينظر إليها من الناحية الاستراتيجية بحسب مصلحة بلده ومنطقة الخليج. ولهذا، وكما هو متوقع، يقوم بعض المتطرفين الذين يعتنقون بسذاجة (نظرية المؤامرة) بوصفه كعميل لـ (سي. آي. إيه) (CIA) وبسبب جرأته وشجاعته غير المسبوقة يندر أن تجد له شعبية لدى القراء المحافظين. وبعد أحداث هجمات 11 أيلول/سبتمبر، وعندما دخل السعوديون مرحلة تأمل حقيقي ونقد قاس للذات، أصبح خاشقجي مناصراً قوياً وشجاعاً للتسامح مع الآخر، ومحارباً للتطرف والإرهاب بقوة. عندما بدأ عمله كرئيس تحرير لـ الوطن، حاول إدخال أفكار جديدة في الصحيفة وبخاصة الآثار الإيجابية للعولمة، ولكن عندما ضرب الإرهاب السعودية في أيار/مايو 2003، وأحس السعوديون لأول مرة بحقائق الإرهاب المرعبة في بلدهم السعودية، ثار خاشقجي وغضب كثيراً وقرر عمل شيء تجاهه وذلك عبر حملة صحافية قوية ضد الإرهاب والتطرف ولكن أحد المقالات التي نشرت في جريدة الوطن كانت أكثر من قوية وهي بعنوان (الإنسان والوطن أهم من ابن تيمية)، حيث هاجم الكاتب السعودي خالد الغنامي تعاليم الفقيه ابن تيمية التي اعتبرها مصدر إلهام لبعض الإرهابيين، ولهذا اعتبر بعض رجال الدين المحافظين أن الهجوم على ابن تيمية هو هجوم على الوهابية.

وبعد فصل خاشقجي، حصل على وظيفة مهمة كمستشار إعلامي للسفير السعودي في لندن الأمير تركي الفيصل، وهذا يعتبر كنوع من التعويض المناسب لخاشقجي وكرد لاعتباره. وهكذا أصبح خاشقجي يدافع عن بعض السياسات السعودية التي ربما كان قد سمح بنقدها بصورة غير مباشرة خلال عمله كرئيس تحرير الوطن. وخلال أيام من وصوله إلى لندن، نفى في مقابلة مع الـ بي بي سي (BBC) وجود رقابة في السعودية. ولكن بالرغم من قوله هذا، لا يجب انتقاده بشدة على هذه التصريحات والتخلي - جزئياً - عن بعض مبادئه وأفكاره إذا كان فعل ما يحتاجه للمحافظة على وظيفته؛ فمن السهل، بل السهل جداً جداً، لهؤلاء الذين لا يعيشون تحت وطأة سلسلة من أحكام التكفير والموت والتخوين والإشاعات القذرة، أن ينتقدوا محاولة شخص للنجاة (Survival) بنفسه وعائلته بالطبع. ولكن للأسف، الصحافيون الذين لا يملكون علاقات متميزة وحماية من الشخصيات النافذة في السعودية يعتبرون غير محظوظين.

(30) داوود الشريان: صاحب العمود الأبرز محليا وعربيا.

داوود الشريان، وهو إسلامي معتدل ورئيس مكتب جريدة الحياة التي تصدر من لندن، هو أحد الكتاب الذين وقعت مقالاته ضحية لما يسمى بـ (تعزيز الوحدة الوطنية في مواجهة الإرهاب). ولسنوات طويلة ومستمرة بثبات كان داوود يعتبر أبرز كاتب سعودي يتمتع بالصدقية، والكاتب السعودي الوحيد الذي كون لنفسه جمهوراً كبيراً خارج السعودية. لقد مُنع الشريان عن الكتابة عدة مرات من قبل، ولكن في أواخر عام 2003، توقف فجأة عموده اليومي (ربما في جريدة الحياة). ولذلك أجد من اللائق أن تكون له الكلمة الأخيرة في هذا الفصل عبر نشر جزء مما أخبرني به في لقاء خاص معه بمكتبه في الرياض في بداية تلك السنة:

يقول الشريان: (لا نملك مساحة كافية للتعبير عن أفكارنا. سواء كانت عن الدين أو عن العلاقات بين المجموعات الإثنية (العرقية)... أو حتى قيادة المرأة للسيارة! هناك العديد من المواضيع التي عندما تريد أن تكتب عنها يجب أن تدور حولها وتواصل الدوران من دون الدخول مباشرة فيها بحرية! إنها ما تزال تلك الحالة التي عندما يكتب صحافي سعودي مقالة، ينتابه الخوف بأنه لن يتمكن من المشي في الشارع في اليوم التالي! فشخص واحد في وزارة الإعلام يستطيع أن يرفع الهاتف ويقول (أوقفوا هذا ال عمود لمدة 3 شهور)، ولا يحتاج مطلقاً إلى إعطاء أي سبب. لقد كنت أكتب عموداً في جريدة محلية. أحياناً كان يتم إيقافي لمدة أسبوع أو شهر، لأني كتبت عن مواضيع مثل الهواتف المحمولة أو وزارة الصحة! لم تكن مواضيع سياسية ولم أتكلم عن الدين مطلقاً. كانت أشياء عادية جداً فحسب، وكنت أمتثل للأوامر وأتوقف عن الكتابة. ثم أنتظر مكالمة هاتفية أخرى تقول لي يمكنك الكتابة مجدداً. لدينا قائمة من الأشياء التي لا يمكن الحديث عنها. إنها ليست (قائمة سوداء)، القائمة السوداء يوجد فيها كل شيء ممنوع... نحن لدينا (قائمة بيضاء) وهذا مؤلم جداً ولا يحتمل (تعليق المترجم: القائمة السوداء (Black List) ترمز للممنوعات والقائمة البيضاء (White List) مصطلح جديد نسبياً يعني في الغرب قائمة المسموحات أو المباحات. وهذا تعبير عبقري وألمعي من الشريان في وصف سطوة الرقابة على الكُتاب لأن الأصل في كل الأمور الإباحة وليس المنع وأن تكون الممنوعات أقل من المباحات وليس العكس. انتهى تعليق المترجم). السعوديون لا يثقون بصحافتهم المحلية في الأمور السياسية لأنهم يعرفون أننا ننشر وجهة نظر واحدة. معظم الصحف السعودية تنشر التطورات الإيجابية فقط. أي شيء فيه لمسة سلبية قليلة يحذف فوراً. إنهم يقولون: (سنعطيكم الوقت لتصبحوا مهنيين (Professional) ، وعندها نمنحكم الحرية! ولكن هذا خطأ كبير لأن الحرية تحصد وينتج منها المهنية. إذا كنت دائماً تأمرني أن أفعل هذا وأن أفعل ذلك كيف يمكن أن أتطور وأنضج؟ إنها معضلة محيرة مثل الدجاجة والبيضة: من الأول؟ الحرية أم المسؤولية؟!)

انتهى كلام داوود الشريان وانتهى تقرير (من يراقب من في الصحافة السعودية؟).

** ** **

قريبا في 4 حلقات: (الشريعة في السودان، التطبيق والنتائج: 1983-1989).

د. حمد العيسى - المغرب Hamad.aleisa@gmail.com