Saturday 21/12/2013 Issue 422 السبت 18 ,صفر 1435 العدد

البدايات السوريّة

إلى رولا رياشي

(لا الضحية ولا الهزيمة تقاس بعبارات عسكرية)

(1)

فجأة وقع الموت على سورية. لم تكن بلداً آمناً بلا شك، بل بلد ممسوك بعشرات الأجهزة الأمنية. بلدٌ تحكمه عصابة من القتلة، عائلة احترفت تعذيب السوريين كما لو أنهم دمى لا تشعر ولا تحس. لكنهم حين أرادوا القول: إن إحساسهم بالظلم فاض عن الحد منذ زمن ووجهوا بآلة الموت والدمار. السياق الذي سارت عليه الثورة السورية الجديدة، كان سياقاً لا يوصل إلا الى ما وصلنا له. موت رهيب ودمار شامل يكاد يجعل من سورية كلها ملعباً للركبي، إلى جانب ملايين النازحين داخل بلدهم وخارجها.

كان في درعا، ساحة عامة تتوسطها دَلةٌ وأربعة فناجين، درعا التي زرتها حين كنت طفلاً وأيضاً في مطلع شبابي كانت مدينة هادئة، بعيدة عن الصخب والعنف. لكنها كانت الممر الطبيعي للوصول الى شلال المزيريب الذي وقفت على حفته يوماً لأشاهد فلسطين. لم تكن فلسطين قريبة تلك الأيام كما هي اليوم. لقد جعلت وسائل التواصل الاجتماعي منا، نحن اللاجئين، أقرب الى بلدنا من كل شيء آخر. لن نحتاج السفر الى الحدود البعيدة عنا والقريبة من فلسطين. ندخل الى الفايسبوك فنرى فلسطين والفلسطينيين، صور القدس ملأت الشاشة الافتراضية، بتنا نعرف أشكال الفلسطينيين الذين لم يخرجوا العام 1948 من هناك. يشبهوننا فعلاً. وجوههم تشبهنا طولهم حتى قريب منا والى هذا كله فإن موائدهم عليها نفس ما على موائدنا.

مع ذلك، لم أنس أن فلسطين التي رأيتها من حافة شلال المزيريب، هي فلسطين التي كنت أريدها، فلسطين التي لا تظهر منها سوى الأرض. فلسطين التي أريدها هي الأرض، والناس طبعاً، لكن الناس في مقام آخر، حتى أولئك الذين انتصروا على إسرائيل ومنعوا (مشروع برافر) من المرور على جثة ما تبقى من الأرض. حتى أولئك، الذين نصفهم أصدقائي، هم في مقام آخر بعد الأرض.

أول مرة رأيت فيها فلسطين كانت من سورية، واليوم، لا أعلم كيف ومتى ومن أين سيرى السوريون بلدهم المدمر.

(2)

أنتج الشتات الفلسطيني أدباً كبيراً، ليس محمود درويش سوى حلقة من حلقاته الكثيرة. لقد كانت النكبة عام 1948 كبيرة لدرجة أنها عششت في ذاكرة كل الشعب الفلسطيني، الذين ولدوا هناك وخرجوا مع من خرجوا، والذين ولدوا في الشتات ولم يدخلوا أو يعودوا. كل شتات بهذا الحجم لابد له من إنتاج أدب عظيم. كذلك كل اضطهاد لا بد له من استيلاد أدب عظيم. في السنوات السورية الأخيرة عرفنا خالد خليفة، روايته (مديح الكراهية) توازي في محتواها النقدي رواية علاء الأسواني (عمار يعقوبيان) عن فترة عبد الناصر وترييف المدن وتدمير بنية المجتمع المصري. لقد كان النقد القاسي الذي وجهه إدوارد سعيد في مقالته عن تحية كاريوكا قبل ثلاثة عقود للخطة المنهجية للثورة الناصرية التي سعت لتدمير بنية الدولة والمجتمع في مصر. كانت، لبنة من اللبنات التي بني عليها النقد الأنثروبولوجي لمصر ما بعد 1952.

في سورية الجريحة منذ أربعة عقود، قرأنا نهاد سيريس وممدوح عدوان اللذين لم يغادرا سورية وقرأنا سليم بركات الكردي الذي أدخل حياة الأكراد المضطهدين الى اللغة العربية، رغماً عن أنف سيد البعث الطاغية الأب. قرأنا حنا مينة، الذي اختار البحر مهرباً من جحيم الكتابة عن القمع والظلم وغياهب السجون. قرأنا كتاباً عظاماً وقرأنا أيضاً حاشية البعث الأدبية، لم يكن سليمان العيسى لا أولها ولا آخرها.

قبل الأدب، كنت قرأت كلام (الرئيس الخالد) على جدران المدرسة الخارجية والداخلية. أذكر أن امتحانات شهادة البكالوريا الرسمية كانت تتضمن سؤالاً عن أقوال (الرئيس الخالد) ولم يكن على التلاميذ تكبد المشقة في قراءة أطنان الكتب التي كانت تطبع بل قراءة الجميل التي تزين الجدران. مأساة (الرئيس الخالد) أن ولده ووريثه هبط تلك الجدران. أزال آثار والده الوحيدة في حياة السورين إذا استثينا السجون التي كانت ممتلئة. في دمشق الثمانينات، حين كنت أعيش في جوبر أولاً ثم في أحياء أخرى من العاصمة، كان السوريون لا يتكلمون بشيء حتى في منازلهم خوفاً من سماعهم. جمهورية الخوف التي أبدع في صنعها حافظ الأسد، كمستبد وطاغية على شاكلة ومثال ستاليني، كانت أكثر من ذلك. كانت جمهورية الصمت في الحياة وفي السجون وفي القبور.

الانتهازيون من المثقفين، الذين سواء كانوا مقتنعين بأفكار البعث، أو الذين وجدوا فيها فرصة للمكاسب الشخصية. كانوا كثراً، منهم ما هو معروفٌ بسبب المناصب التي تسلمها كعلي عقلة عرسان وبثينة شعبان.. إلخ ومنهم من بقي أسير الغرف السوداء التي كان يكتب فيها التقارير بحق زملائه من الكتاب. سورية بعد الخطوة التي بدأها أطفال درعا لم تعد سورة السابقة الذكر. تحول الشعب الى صرخة واحدة، الى جسد من الألم، الى حنجرة واحدة حاولوا مراراً إسكاتها ثم اقتلوها رمزياً بشخص القاشوش - منشد الثورة - لكنهم مع ذلك عجزوا عن إسكات صوت الشعب المدوي.

الشعب نفسه الذي يموت أطفاله اليوم من البرد. سيقول أحدهم، من هؤلاء ما كان عليهم مغادرة قراهم وبلدهم. لماذا؟ هل ليموتوا بالصواريخ الباليستية التي تمطرهم أم تحت جنازير الدبابات أم اغتصاباً وقهراً وذلاً. شبع السوريون من الذل الذي رضعوه مع حليب أمهاتهم منذ ما يقرب النصف قرن، قرروا أن يتحرروا من كل شيء لكن حتى الطبيعة لم تنصفهم. لا أعرف ما هو الأدب الذي سيكتب عن هذا؟ أية قصائد يمكنها أن تصف زرقة أصابع أقدام الأطفال المزرقة من البرد؟. مناظر البؤس التي نشاهدها بالصور التي بدأت تتسلل حتى الى كوابيسنا، مشاهد لا تنسى أبداً أين منها الغولاغ الذي اقترفه الروس الذين بنوا أسطورة الأسد الأمنية وبطشه. يا ليتهم حملوا كل منشورات البعض وأدبه الرديء ليحرقوا بعد أن لوثت سورية طوال عقود. كان يمكن لكل هذه المنشورات أن تكون مفيدة لمرة واحدة فقط ثم تذهب الى الأبد.

(3)

في كتاب يومياتها (تقاطع نيران، 2012) تدخلنا سمر يزبكالي خارطة تنقلاتها بين دمشق والمناطق المحيطة بها، الى تلك الأحياء التي تعتبر من دمشق نفسها. لا أحد يمكنه أن يحسد الكاتبة على تنقلاتها. في ذلك الوقت كان القتل في بدايته، كان يموت من السوريين ما بين خمسين ومئة وخمسين يومياً. اليوم الأرقام مخيفة، بالأساس لا يمكن لأحد معرفة أرقام حقيقية للضحايا التي تسقط في كافة أنحاء سورية، مضافاً لها ما يتساقط من أطفال سورية في خيم البرد والصقيع والموت.

المليحة وجرمانا والحجر الأسود والدويلعة لم تعد منذ الثمانينات خارج دمشق. كانت حكومة عبد الرؤوف الكسم، المهندس الدمشقي، الذي رسم ما سموه حينها - المتحلق الجنوبي - وهو الطريق السريع الذي يحيط بدمشق ويفصلها فصلاً تاماً عن الغوطة من كافة الإتجاهات. كنت في ذلك الزمن في دمشق، صغيراً كنتُ، لكني عشت ذلك المشروع بسبب الحفريات التي كانت تفصل بيت خالة أمي في جوبر عن المزرعة الصغيرة التي يملكها أحد أولادها في زملكا. زملكا منذ ذلك التاريخ بقيت في الغوطة في حين بقيت جوبر في دمشق، حياً تاريخياً، يماثل الأحياء الأخرى التاريخية التي يسكنها موزاييك من كافة الأديان. غير أن الذي حصل بعد ذلك أمرٌ آخر. بدأ الزحف العلوي يأتي من أرياف الساحل الى زنار البؤس الذي أحاط بدمشق ودمر غوطتها. الغوطة نفسها التي فتن بها النبي محمد صلى الله عليه وسلم حين كان يزور دمشق من أجل التجارة في ذلك الزمان.

فعل حافظ الأسد في دمشق كما فعل عبد الناصر في القاهرة. دمر نسيجها الاجتماعي وقدرتها على خلق حياة مدينية، نشر حولها القذارات والشبيحة والعشوائيات والبؤس، فقراء الساحل، العلويون الذين يعملون في أجهزة المخابرات المتنوعة، أصحاب الثقافة المتدنية والعضلات المنتفخة، ساكنو البيوت غير المكتملة البناء. لم يدمر حافظ الأسد المدنية فقط في دمشق بل دمر المشهد العام وجمالية دمشق التي تم الحفاظ عليها منذ الأمويين.

نجت سمر يزبك من الموت مرات عدة، تقول في كتابها، أنهم، أي جماعة الأسد، لم يفرقوا بينها وهي علوية وبين آخرين. لم تكن البدايات السورية طائفية، كان القمع يشمل أو يساوي كافة أبناء الشعب المنتفض دون تمييز إلى أن انتبه الطاغية أن الحفاظ على مكانه يفرض عليه تحويلها إلى طائفية. ثار السوريون من أجل الحرية لا من أجل الأديان، مع ذلك جلب الطاغية مليشيات حزب الله المتمرسة في القتل ومليشيات عراقية وإيرانية لقتل الشعب الحر. في كتابها لا تذكر سمر يزبك أنها شاهدت هذه المليشيات. كانت تسمع بوجودهم لكنها لم ترهم، مع ذلك فالموت الذي كتبته خرج من بين ضلوعها، تفجر من مساماتها، احتقن في أوردتها. موت انتشر على صفحات كتابها صفحةً صفحة.

أخرجُ من كتاب سمر لأدخل في (لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة) خالد خليفة، صاحب مديح الكراهية. يجرد المطابخ من سكاكينها الحادة. الكلام الذي كان يقال لسمر على حواجز الموت كان أمضى من سكاكين المطابخ. لكن الشعب قرر أن يتكلم حتى لو كان رصاص الطاغية أغزر من مطر السماء. مع هذا فالأدب الذي عليه أن يكتب من الآن فصاعداً لن يكون أدباً إن لم يذكر نضال هذا الشعب الجبار.

أدبُ سورية القادم هو أدب الملحمة التي رسمها أطفال سورية بأقدامهم العارية على ثلوج العاصفة الروسية التي أسموها ألكسا.

محمود درويش_ باريس