مَن أكون حتى أتحدث عن كلمتين خفيفتين على اللسان، حبيبتين إلى الجنان، ثقيلتين في البيان؟! لهذا اتكأتُ كثيراً على عمالقة الثقافة، وقامات البيان والإبداع، ومَن أحال على ملئ، فليتبع.
لا ريب أنَّ مكتبتنا العربية، أعني: (المؤلَّفة باللغة العربية) ثرَّةٌ غنيَّة، مورداً ورِيَّاً، تبزُّ الأمم الأخرى؛ كثرةً، وجودةً، وتنوعاً، فليس لأُمَّةٍ من الأُمَمِ مَا لأَهْلِ الإِسلامِ مِنْ تَنوِّع العُلُومِ والمعارف، والتفنُّنِ في التصنيف والتأليف، وتقريبِ المعلومات، فلا يخلو بابٌ من المعرفة إلا وضربوا فيه بِسَهْمٍ وافِرٍ، أحكموا فيه صنعه، نظمه، ونثره.
قال القَلْقَشَندي (ت 821 هـ) - رحمه الله -: «واعلَم أنّ الكُتبَ المصنَّفةَ أكثرَ مِن أَنْ تُحصَر، لاسِيَّما الكتب المُصَنَّفةَ في المِلَّةِ الإسلامِيَّة؛ فإنَّها لم يُصنَّف مِثلُها في مِلَّةٍ من المِلَل،ولا قام بِنَظِيرِها أمَّةٌ من الأُمَم».()
إن ضخامة تراثنا لا يمكن أن يحصـر؛ فخزائن الكتب في بلاد الإسلام أعجزت الأولين عن تدوين عناوينها؛ فكيف بحملها، وجمعها في مكتبة واحدة.
ولكثرتها تفننوا في التأليف، وابتكروا فيه طرائق قِدَداً؛ لتحريك الذهن، وشحذ الهمم.
قال الأديب الكبير: أحمد الزيات المصري، صاحب «مجلة الرسالة» (ت 1388هـ) ـ رحمه الله ـ: (إنكم لَتُكْبِرون ما بذله العرب من الجهود الجبارة في سبيل المدنية والعلم()، إذا قستموه بما خلفوه من البحوث، وما ألَّفوه من الكتب، فقد تناولوا أصول المعارف الإنسانية بالتقصي الدقيق، والغوص العميق حتى فرَّعوها إلى ثلاثمئة علم أحصاها طاشكبرى زاده في كتابه « مفتاح السعادة»، ثم استنزفوا الأيام في معاناة التأليف على صعوبة النسخ، وكثرة المؤونة وقلة الجدوى، فتركوا للعالَم ذلك التراث الضخم الذي اشتملت عليه مكاتبهم في الشـرق والغرب، فقد ذكر (جيبون) في كتابه عن الدولة الرومانية أنه كان في طرابلس على عهد الفاطميين مكتبة تحتوي على ثلاثة ملايين مجلد، أحرقها الفرنج (سنة 502هـ)...
ونقل الزيات أخباراً نحو هذا عن المقريزي... وفيه ملايين المجلدات.
ثم قال: (على أن توالي الفتن والمحن على العالم الإسلامي، لم يبق للعصـر الحديث من هذا الكنز المذخور والمجد المسطور إلا ثلاثين ألفاً، وُزِّعت على مكاتب العالم).
والقصد من ذلك: الإشارة اليسيرة إلى غناء تراثنا، وتميزه، - ومنه تبعاً الكتب القيمة للمتأخرين والمعاصرين -، خاصةً أنه مستمد من دين قويم، وفهمٍ له مستقيم، ورجالٍ بذلوا في خدمة الدين ولغته ما لم يبذله أحدٌ من الأمم الأخرى، رحلات تجوب الأقطار، ونسخ متصل بالليل والنهار، ودقة تعجز عن مثلها «الحاسوب»، فهل بعد هذه المحصلة البديعة الجامعة المنوعة يذهب محب الثقافة والاطلاع فضلاً عن العلم إلى القراءة أو حصر القراءة في الكتب الأجنبية المترجمة التي يضع مؤلفوها الورقة في عشر ورقات ببيان هزيل، وتمثيل تأباه شريعتنا، فضلاً عن عاداتٍ لاتوافق عاداتنا،ولا ذائقتنا؟!
قال الأديب: إبراهيم المويلحي - رحمه الله - (ت 1324هـ): (ومن عجيب ما ورد في التقليد الأعمى أننا لا ننتبه إلى محاسن صنائعنا وجميل استعمالها إلا بعد أن يأخذها الأجنبي عنا، فيدعونا تقليده إياه إلى الرجوع إليها، فصـرنا لا نهتدي إلى ما عندنا إلا بعد أن ينتقل إلى الغربي؛ لنكون وراءه حتى فيما يعترف بتقدمنا عليه فيه...).
قال العلامة علي الطنطاوي - رحمه الله - عن تاريخنا: (إنه أخصب تاريخ في الدنيا، وأحفله بالعظماء، ولكن عيبنا أننا لا نعرف تاريخنا، ولا نقدر عظماءنا؛ ونتسابق إلى اقتناء الزجاج من عند غيرنا، ونزهد بالألماس الذي تفيض به خزائننا.
فيا أيها الشباب، لا يخدعكم زجاج غيركم، عن حُرِّ جواهركم).
وقد رأيتُ كثيراً ممن يتتبع الآداب الأجنبية، وتواريخها، وفلسفتها، إذا سألتُه عن يسير من تراثنا الماتع، نفى علمَه بشيء منه، قصاراه عن العرب كتب بعض المعاصرين!
لو كان انبعاثه للمترجمات بعد الامتلاء من كتبنا، وتحصين نفسه بالمسلَّمات وحرَمِها؛ ثم اتجه لما يغلب تميزه، ويقلُّ وجوده في تراثنا؛ لكان لفعلته محملاً؛ لكنه قام بذلك ولما يقم أوَدُه الثقافي؛ وعليه ستردي فِكْرَهُ أرضاً؛ أو تحملَه إلى مكان سحيق، وهو يحسَب أنه يُحسِنُ صُنْعاً.
ويُمَثَّلُ لما سبق بما صنعه العالم الفقيه المفسِّـر النجدي الشيخ: عبدالرحمن السعدي (ت 1376هـ) - رحمه الله - حينما رأى في بيروت كتاب ديل كارنيجي «دع القلق وابدأ الحياة»، رآه صدفة ولم يقصد إليه، قرأه فاستحسنه، ورأى أنه لم يُكتب عندنا ببسط كما في الكتاب المذكور، وأن أسسه ومبادئه موجودة وزيادة في الكتاب والسُّنَّة، فعمد إلى زبدة أفكار الكتاب، وعرضها بلسان عربي مبين، لا حشو فيها ولا منغصات كما في المترجمات، ثم استدل لها بما في الوحيين الشـريفين، فكان كتاباً خفيف المحمل بحجم الكف،سهل العبارة، لطيف البيان، وسمَّاه « الوسائل المفيدة في الحياة السعيدة».
قال العلامة: محمود شاكر - رحمه الله -: (إنَّ العار أن يقضي الشاب من أول نشأته إلى آخر خروجه من دراسته أعواماً طوالاً، يدرس في أثنائه تاريخ « نابليون» وأمته، وفلاناً وفلاناً من أفذاذ الأمم الغربية، وهو لا يعرف من ماضي أمته العربية إلا نتفاً تذهب مع الأيام، هذا الماضي الذي يصوره الذين يتعرضون للتاريخ من مستشـرقين يقولون غير ما لا يعلمون()، أو يقولون فيما لا يعلمون؛ أو عرب قد فسدت قلوبهم على تاريخهم، فهم يتقيدون لآراء عن تاريخهم كلها بهتان وتدليس، هذا الماضي الذي يصورون في صورة مسخ تاريخي هائل، قد خرج على الدنيا كما يخرج الوباء، ثم انقشع عنها؛ فأعقبها صحة وعافية، أو كما يقولون!).