اشتهر قديما عن (الحافظ بن رجب) الحنبلي تبنيه للدعوة إلى الاقتصار على المدارس الفقهية الأربعة وقصر الاستمداد منها وعدم تجاوزها بحال من الأحوال كما في رسالته (الرد على من اتبع غير المذاهب الأربعة) ولكن جماهير العلماء لم يشاطروه ما تبنّاه إيمانا منهم بضرورة كسر حدة التمذهب وأن الشأن كل الشأن هو في قوة الدليل وصحة التأسيس للحكم الفقهي.
هذا الموقف الاحتجاجي من الجمهوري تنافى تماما مع الدعوة - وهي دعوة ضمنية أكثر منها صريحة - إلى تكريس القول الواحد والتعاطي معه بوصفه حتمية معرفية لا يجوز تجاوزها مع العلم بأن تكريس القول الواحد والانحباس في إطاره وإحاطته بسياج متينة تمنع من مقاربته معرفيا أنتج على المدى الطويل ذهنيات ضيقة العطن منكفئة على ذاتها لا تستوعب الخلاف ولا تتفهم الحيثيات التي ينطلق على ضوئها المخالف ولذا فهي تتعاطى معه مهما بلغت رؤيته من العلمية ونتيجة لمغايرته للمألوف وعدم تقاطعه مع السائد تتعاطى معه بروح التخوين والتسفيه والتضليل على نحو تغيب فيه المعرفة لصالح الجهالة ويقع الكثيرون ضحية للون من الاصطفاف الفقهي المتخم بداء التأدلج والذي ليس له من باعث سوى التقليد الأعمى المجرد الذي يُستدعى حتى ولو مع عدم الضرورة وعدم العجز عن الاستدلال وهو الأمر الذي توارد كثير من العلماء على استنكاره كـ(الشوكاني) في كتابيه (القول المفيد) و(إرشاد الفحول) وكـ(ابن حزم) والذي عرف بصرامته الجدلية - وبغض النظر عن مدى موضوعيته في هذا السياق - فقد ندد بالتقليد في كتابه (الإحكام في أصول الأحكام ج5 ص59) ونزع إلى إعلاء شأن المكلف مقابل التقليص من دور الفقيه وهكذا في (إعلام الموقعين ج2 ص182) يسرد (ابن القيم) ثمانين وجها في تفنيد التقليد وقلب دعاوى المقلدة ومن قبلهم توارد الأئمة الأربعة على ما يضارع هذا المعنى.
إن تكريس القول الواحد فضلا عن أنه إضفاء للقدسية على اجتهادات بشرية فإنه أيضا أفقد الكثيرين القدرة على استيعاب المخالف فلا يتعاطون معه بروح التقبل والهدوء بل كثيرا ما تكون الروح الصدامية هي الحاضرة وسوء الظن هو الذي له الكلمة العليا في هذا المقام.
إن ثراء الفقه وقابليته للتجديد بالإضافة إلى تغيرات الراهن اللافتة كلها تستدعي العمل على تحجيم حدة الانتماء المذهبي وذلك عبر تنويع مصادر الحكم ومد الصلة بالأقوال (المدللة) حتى ولو كانت لا تنتمي إلى المدارس المشهورة كاستجابة طبيعية تمليها حيثيات هذا السياق الاستثنائي وطبيعة مستجداته المتلاحقة.
- بريدة Abdalla_2015@hotmail.com