من المضحك، والمثير للعجب، تقسيم الناس وتصنيفهم بناءً على سطحيات وتفاهات لا تبدئ ولا تعيد.
من هذه التقسيمات على سبيل المثال، تقسيم الناس إلى مثقفين وجماهير، أو نخبويين وجماهير:
المثقفون = الأكاديميون، الجماهير = غير الأكاديميين!
عجبا! وأهول به من تقسيم غبيّ، اخترعه أكاديميّ غبيّ، ممرور كبرا وانتفاشا! تقسيم يعلي من شأن فئة ويهوي بشأن الأخرى، ليس استنادا على ذاكرة كل فئة وما تحويه من معرفة وذكاء وممارسات، بل اتكاءً على ورقة رخيصة لا يحتاج الحصول عليها سوى قليل من الصدق والجهد وكثير من الكذب والكسل والخداع والتلفيق!
إني أرى بقرات سماناً تكرع بهن بقرات عجاف! وسنبلات خضراً مهانات وأخر يابسات مكرّمات! أفتوني في قسمتكم أيها المثقفون إن كنتم للرؤيا تعبرون!
الجمهرة من كل شيء: معظمه، وجمهر القوم: جمعهم. وهذا يتوفر كثيراً في مجتمع المثقفين (الأكاديميين) حيث الغوغائية والاجترار، والتجمهر والتجمع، بل التزاحم والتكدس!
والتجمع لا يعاب على عمومه، لكنه عيب هنا على من نفاه عن نفسه ووسم به آخرين على سبيل الانتقاص، وهو يفترش التجمع بكل ما أوتي من قوة! فهل التجمع يا ترى سمة شعبية أم سمة نخبوية أم سمة طبيعية وكونية أم سمة طفيلية؟ وهل هو سمة إيجابية أم سلبية أم يجمع بين الاثنتين؟
إن الثقافة موجودة ولا بد، ووسم إنسان ما بأنه مثقف صحيح لا غبار عليه، إنما الغبار على وسم الأكاديميين بهذه الصفة على عمومهم، وإسقاط هذه الصفة عن غير الأكاديمي وغير الرسمي والمؤسساتي.
المثقف تصقله الدراسات العليا - لا شك - وتفيده فائدة جمة، بيد أن غير المثقف لن يجني من الدراسات العليا إلا المهنة، فبأي حق يلحق بقائمة المثقفين؟!
يقول نيتشة عن الجماهير: «لا تقوم عظمة إلا بعيدا عن الجماهير وبعيدا عن الأمجاد، وقد انتحى الأماكن القصيّة عنها من أبدعوا السنن الجديدة في كل زمان».
وأضيف لكلام نيتشة: لا تقوم عظمة إلا بعيدا عن جماهير المثقفين وبعيدا عن أمجاد الجامعة الكاذبة، من ترتيب الأول الموقر، إلى الطريقة الغبية في صياغة أسئلة الاختبارات والتصحيح والتقييم.
إني لا ألوّح إلى الكسل واعتبار هبوط الدرجات علامة على التميّز، بل أرمي إلى مراعاة النماذج المختلفة، ومن ثم التنويع في الأسئلة، ثمت التغيير في التصحيح والتقويم والتثمين؛ تثمين العقل المبدع الذي ضُيّعَ كثيرا وحورب بسبب الدرجات، بسبب إهماله وإهمال نموذجه وما يتطلبه هذا الأنموذج من طريقة تناسبه وتساعده على الخروج إلى النور - كما سوعد الأبله قبله إلى أن خرج إلى النور رغم أنه أفدغ لا يجيد إلا الحفظ الأصم كالطفل الذي يحفظ ولا يفهم ما حفظ ولا يستطيع أن يتصرف بما حفظ فما بالك بأن يستطيع ويتطلع إلى التصرف والتجادل مع ما لم يحفظه؟!
- بعد أن ينصقل ويتهذب ويومض كالبرق فيكون النار والنور، ليس كطالب المركز الأول المبجل الذي لا يسطيع حتى ان يساعد المبدع الذي يفوقه إما لغبائه أو لحسده وكلاهما منقصتان.
الثقافة شغف مستديم منتج، إنتاجه داخليّ متراكم، حتى ينفجر فيتدفق السحر حينئذ؛ إذ لا يستطيع المتلقي أن يصف ما يقرأ أو ما يسمع إلا بالسحر، لكن هذا السحر لم يخرج سدى، ولم يخرج رخيصا سهلا، إنه عمر، من الطفولة بدأ، وبلهيبه كوّى صاحبه، وبمقرعته قرع صاحبه أولاً، إنه استيقاظ على الدوام، وما كتابة بعض الأحرف أو النتاج إلا إغفاءة يستريح بها من وعثاء الوعي!
أفيتساهل بعد هذا بإطلاق رمز المثقف جرّاء ورقة فقط، وكأن الثقافة ورقة لا عمرا بأكمله وقلبا عقولا يثقل على صاحبه مدى الحياة!
لقد كنت في زمن مضى أتشكك في عبارة أسمعها في بعض المواقف لكني الآن وعيت جانب الصواب منها: «العلماء الحق علماء المساجد لا دكاترة الجامعات». لا أؤمن بالعبارة على عمومها، بيد أني أؤمن بجزء منها؛ إذ العالم الحق وطالب العلم الحق هو من يطلب العلم لأجل العلم، من يقبل على الدرس لعشقه للمعرفة، من فضوله المعرفي فوق أي رغبة أخرى.
أما المؤسسات والجامعات؛ أي التعليم الرسمي، فقد دخله كثيرون ليس لأجل العلم، بل ليس لقدر بسيط من العلم، وإنما للوظيفة، أي صار مهنة، وفرق بين المهنة الجامدة وبين العلم والبحث - الحي المتحرك دوما والمتطور - والتحرّق المعرفي.
يقول علي الوردي: «العلم لا يكون نافعا إلا إذا كان واطئا يجاري الناس في أسواقهم وبيوتهم وأزقتهم». بيد أن الممرورين بداء الأبراج العاجية - الذين لا يستطيعون العيش إلا بالنظر من سمّ ثقب في أبراجهم إلى الناس في الواقع والميدان والحياة الحقيقية فيرونهم صغاراً والناس أيضاً لا يرونهم إلا صغاراً كفضلة حمامة أو طير بُصِقَتْ على جدار أبيض - قلبوا الآية منذ أفلاطون، وحرموا فئات لا تحصى من نهل المزيد وإنتاج وإبداع المزيد والمزيد، رسوفا في قيود عاجيتهم الظالمة الغاشمة.
يقول علي الوردي: «كان أفلاطون أرستقراطيا، وقد شيّد أفلاطون مدرسة خاصة به تطل على بستان أكاديموس فسميت لذلك باسم الأكاديمية وهو بهذا يختلف عن سقراط الذي كان يعلّم الناس في الأسواق وكثيرا ما شوهد وهو يأكل ويحاور تلاميذه في آن واحد».
ها أنا أرى أكاديميتك فرّخت، وأنسلت، يأجوجها ومأجوجها من كل حدب ينسلون ويعتمون على عباد الله ويتكبرون ويضربون في العلم بغير حق.
بيّن البروفيسور فبلن كيف أن الطبقة الفراغية تحاول شتى المحاولات لكي تبتكر لنفسها مظاهر معقدة صعبة تجعل العامة عاجزين عن تقليدها وبذلك يشعر أبناء تلك الطبقة أنهم من طينة عليا ويتابعهم العامة في هذا الشعور دون أن يحسوا بالمكيدة المنصوبة لهم.
وصدق نيتشة حين تكلم عن العلماء، وأراها تنطبق على علماء الجامعات: «إن بي من الحماس ومن لهب الفكر ما يقطع عليّ أنفاسي فلا يسعني إلا الاندفاع إلى رحب الفضاء هاربا من الغرف المكسوة بالغبار، ولكن هؤلاء العلماء يتفيأون الظلال فلا يقتحمون السير على المسالك التي تلهبها حرارة الشمس. وما وِجدتُ مرة بين هؤلاء العلماء إلا وكنت فوقهم لذلك أبغضني هؤلاء العلماء فإنهم لا يطيقون أن يسمعوا بمرور أي كان فوق رؤوسهم».
خاتمة.. الإبداع والثقافة فوق التقسيم، فوق المناصب والنصب والكراسي، فوق الحدود المهترئة التي رسمها الطمّاعون المستبدون الفارغون.