(إيراق يوغل في محجر ذاكرتي) لأحمد اللهيب أنموذجًا
- المدينة حاضرة في شعر اللهيب مُعرّفة تارة، ونكرة تارة أخرى؛ فالمُعرّفة تتمثل في قصيدة (أحرف ضائعة)-ويقصد بها فلسطين-،و (قراءة في أورقة لندن)، والنكرة تتمثل في(العنكبوت)،و(إيراق يوغل في محجر ذاكرتي ) التي هي موضوع المقالة.
- يتعالق العنوان (إيراق يوغل في محجر ذاكرتي) مع نص القصيدة ذلك أنه دَلوٌ يلج بئر النص .. بدأ العنوان زمانيا مرفوعا، وتوسط مكانيا باضطراب حركي عميق عنيف،وانتهى مستقرا في الذاكرة مجرورا بالخيبات المتوالية، فثمة انكسار نفسي في العنوان .
- إن إضافة ( ياء المتكلم) إلى الذاكرة تعني استبدادية الذكريات في ذاكرته، ودلالة المحجر يوحي بالأنثى؛ لكونه ما يتجلى من المرأة إذا تنقبت، فالخوف من انتشار وباء الذكريات يقتضي الحجر لها؛،ذلك أن محجر العين مُبتلى بانتشار العوارض المرضية فيه،أما الذاكرة فهي مركز الحماية لها؛ لكونه لا يراها سواه،فمتى استوطنت الذكريات الذاكرة تبقى حتى تزمهر أو يزمهر هوعنها. وأنى؟! وللذاكرة المتدثرة بالأنين أعصاب ذكريات ملتهبة تتجلى ما بين ثروة وثورة.
- الذاكرة ترهقها غَبرة الألم، مبيضة عيناها من الحزن،كظيمة بذكريات مخذولة؛ ولأن الضدية تتنفس فيها جاءت متعددة الألوان ،متشكلة بالثورة والقلق، وتحسس العمق بتوجس ،متحشرجة بالأسى والسلوى.
- الشاعر ذكي في توظيفه مفردة ( إيراق) التي ترتبط زمانيا بالليل حيث استبدادية السواد، والدخول في صراع نفسي أمام هز وحدته، و أنين حزنه، و حبل يأسه الملتف على عنق أحلامه، وارتعاش مفاصل غموضه...، واللون الأسود ملك انعكاس المشاعر المظلوم بالحظ المشؤوم،فذكرياته هي عنده بمثابة النقاب من المرأة، والوجه هو الحقيقة حين كشفت ساق الواقع عنه. فجاء العنوان معاديا ومعاندا وعتيدا معاكسا للحلم، ومزلزلا للفِكر والفِكَر، ورامزا للتقاليد والقيد ، وموحيا بالموت والحداد على المدينة...،وجاء كذلك كغطاء ساتر لمعنى غير تقريري يخفي أكثر مما يبدي.. فيبدو أن (إيراق) يمثل الصراع / الذات، و( المحجر) أنثى أشعلت الحرب وتخلت، و( ذاكرتي ) رجل سقط مقتولا، مزهق الروح، معذبا ما دام نبضه.
«ودخلتُ أسواقَ المدينة
في غفلة من أهلها،
وحملت أوراقي التي لطختها بأنين ذاكرتي...
وأسكنت الحروفَ منابت العينينِ تنبش في دمي.
حزني هناك .
وغناء أنملتي يموء على ضجيج الصمت حين أورق في ضياء الحزن ...
يركض بين أوردتي ويصرخ في المساء ولا صدى»
- يظهر لي أن مفردة المدينة تأخذ مضمونا نسويا لكون الـ (هي) امرأة فوق العادة مسكونة بالنقيض والـ (هو) يمارس إحساسه الحاد معها مشركا كل الحواس والطقوس، بات معها يهرب من صراع ليلج صراعا أعنف من سابقه، فحين أرعبه الخوف استمطر الأمن، وحين خذله الحلم تلحف برماد الشك والحيرة.
- جاءت مفردة (الأسواق) بعد فعل ماضٍ مضافة إليها (المدينة)، فجمع الأسواق يبدو أنها دلالة على الدنيا، وإفراد المدينة دلالة على أنها أنثى واحدة. فدخول المدينة هو دخول في الأمن والخروج منها دخول في الخوف.
- دخول السوق ولوج في الفتنة فكل أذواق البشر تحجُ إليه، فليست القضية دخول سوق من عدمه وإنما القضية تكمن في ( الغفلة)التي يتعاطاها أمام أهل المدينة/الحبيبة التي أسرته وأُسر عنها فـ (الغفلة) توحي بأن الدخول لم يكن طبيعيا مستقرا فباتت ذاته متوجسة على المحظورين الديني، والاجتماعي الثقافي ..
- فمفردة (حمل) مشبعة بالتعب والثقل الذي يعانيه فما كان من الأوراق أبيض حبرها بسواد حزنه، وبزفير شكواه، وتوجعه، فحمى وطيس صوت التشاؤمية المُعلقم المُلغم في علاقته مع المدينة/الحبيبة.
- وعلى الرغم من ذلك، فهو لا يهدأ إلا بها ولا يسكن إلا إليها فجاءت الحروف إيحاء لعمر مدينته /حبيبته، أو لعمر الأيام التي جمعته بها، أو حروف متقطعة لا يفهم معناها إلا هو وهي؛ فباتا نونين يحار فيهما الآخر .. وإسكانها في منابت العينين دليل اضطراب متأصل في العلاقة، واختيار حاسة الرؤيا في الإسكان يوحي بعمق منزلتها فيه وبقربها فهذه المدينة/المرأة ستخرج ما دفنه في كل رمشة عين، وتعري حزنه لكل من ينظر إليه، وتزيد أشجانه حين يحدق النظر بأماكن ذاكرته ..وما يزيد من إيلامه أن النبش يكون في الدم، وهذا يوحي بالنفسية الثائرة القلقة؛ وكأنها في حرب مع نفسها، والإشارة بالحزن (هناك) يُعري عمقه في ذاته وعقمه في آن.
- فبين الغناء وضجيج الصمت يتأزم الصراع لأن الفقد أبرق في سمائه الثكلى فجاء صوت (المواء) معزيا وممهدا؛ لأن قرقرة القطة شفاء محزون. ومع ذلك فالقطة دليل انفعال خوف ولطف... ولربما تساوت حسناتها وسيئاتها عند الكل...ولا عجب إذا علا صوت الشك والحيرة يركض وكده بين كل عرق نابض فيه والنتيجة يَغْسله الفزع حين يضرب برجل اليقين المكسورة على الحظ لتيقنه أنه لم ينل ما يريد من المدينة/الحلم، ولا حتى طائر الصدى المُعنّى ولا حتى شرخ الصدى الذي يسخر من بحة صوته، وتعرج أساه، واستقامة انتظاره المائل بوجعه!