Saturday 21/12/2013 Issue 422 السبت 18 ,صفر 1435 العدد

توابيت لحفظ الكلمات!

مع التّغيّرات العميقة التي أصابت البِنى الاجتماعية - الثّقافية العربية في العقود الأخيرة، ومع التّطوّر الذي طرأ على حركتي النّشر والتّرجمة، حفلت السّاحة الشّعرية العربية بميلاد مجموعة كبيرة من الأصوات الجديدة. مثل هذه الظاهرة لم تكن موجودة إبّان انطلاق حركة الشعر العربي الحديث قي أواخر الأربعينيّات من القرن الماضي، لكن وعلى الرّغم من الكثرة العددية لهذه الأصوات الجديدة فإنّ أثرها في الشّعر ظلّ قليلاً نسبيّاً، خاصّةً وأنّ الغالبية العظمى منها ذهبت لتحقّق شعريّتها في مناطق خارج الشّعرية، أو بوسائل غير شعريّة! لقد بتنا نسقط على نصوص عجيبة لا تتّصل بالواقع من قريب أو بعيد، وفي الوقت نفسه لا تمتّ إلى اللغة بصلة، وتحت يافطة الحداثة، وشعار القطيعة مع الماضي أصبحنا نقرأ كتابات لا تنتمي إلى الفنّ بشيء. القليل القليل من هذه الأصوات أخذت الأمور على محمل الجدّ، وصبّت جهدها في المنطقة المطلوبة، ولم تنتبه لكلّ تلك الدّعوات التغريبية التي تفسد الفنّ، وقد استطاعت أن تؤسّس لنفسها طريقاً واضحة المعالم.

تمتلئ الكتابة الشعرية الجديدة بعدد غزير من النّباتات الضّارة، إلى الدّرجة التي يمكن أن تغطّي فيه مثل هذه النّباتات أرض الشعر، فتكون النتيجة أن نطلّ على كلّ هذا الشّواش ونفتقد رؤية الشعر: ثمّة نصوص باردة يمكن أن نصادفها هي بمثابة توابيت لحفظ الكلمات الميتة الجامدة، ثمّة نصوص مزدانة بكلّ ذلك الريش والأصباغ، ولكنّنا لو دقّقنا فيها النّظر لعثرنا تحتها على ذلك الكلام الهرم اليابس الذي سرعان ما يتساقط كالرّماد عندما نلامسه، وثمّة نصوص محشوّة بالمعلومات المثقَّفة التي يظنّ مدبّجوها أنّهم بواسطتها يمكن أن يصلوا ذرى الشعر.

في أحد معارض الكتب عثرت مرّةً على ثلاثة دواوين شعرية لنقّاد عرب معروفين فاشتريتها، وحين قرأتها لم أصادف إلاّ أفكاراً موزونةً وعبارات باهتة، وفي إحدى المرّات سهرنا حتى الصّباح برفقة مفكّر كان يهجو كلّ ما نقرأه من شعر، حتى إذا أوشك الليل على الأفول استلّ من جعبته مجموعة من الأوراق وقال بنبرة السّيّد الآمر سوف أقرأ عليكم الآن قصائدي، وقرأ ما لديه، فكان ما قرأه مجرّد كلام أجوف وموزون.

بعد هذا الحديث عن واقع الشّعر العربي اليوم نسأل: هل يمكن أن يؤدّي تحطيم بنية الشعر والإطاحة بماضيه إلى كتابة شعرية حقيقية ومعافاة؟ هل تكفي الأفكار وحدها لكتابة الشعر؟ هل الثقافة والقراءة هما العنصران الحيويّان الرّئيسان اللذان يمكن أن يعوّل عليهما في إنتاج القصيدة؟

تتأسّس العملية الشعرية برمّتها على الموهبة التي عن طريقها يتحوّل العادي وربّما المهمل إلى صورته السحرية والمدهشة. الموهبة بهذا الاعتبار مرآة للشاعر بواسطتها يستطيع هذا الشاعر أن يحقّق للأشياء رغبتها القديمة في الانعتاق من ربقة الشّكل واللون، والسّباحة في الفضاء الحرّ. الثقافة مثلها مثل القراءة يمكن أن تشكّل عنصراً داعماً للموهبة، ولكنّها لن تسدّ عنها بأيّ حال من الأحوال.

من جهة أخرى هناك مسألتان تتّصلان بجوهر العملية الشعرية ولا بدّ من الحوار فيهما بعمق:

) المسالة الأولى تتعلّق بقانون الفنّ الذي ينبغي مراعاته عند الكتابة، وعدم القفز عليه. إنّ كتابة الشعر مثلها مثل سائر الأجناس الإبداعية ينبغي لها أن تصدر عن فهم عميق للفنّ ولماهيّته ودوره. إذا ما تأمّلنا خريطة الشعر العربي المعاصر، فإنّنا نجد هناك إهمالاً شبه كامل لهذا القانون في نتاج الشعراء الجدد الذين يكتبون نصوصهم بشكل ميكانيكي. هنا يصبح تحطيم بنية الشعر الآنفة، والإطاحة بالموروث الشعري ضرباً من الهذيان.

إنّنا لو حطّمنا بنية الشعر سنسقط بالضّرورة في شيء آخر غير الشّعر، كما أنّنا حين نطيح بالموروث الشعري فإنّنا نطيح عمليّاً بتلك الجذور العظيمة التي تشدّ أقدامنا عميقاً في تراب الشعر وتزوّدنا بالحياة.

في الفنّ ثمّة زمن آخر يختلف عن الزّمن الذي يسير فيه التاريخ البشري، فالماضي يمكن أن يكون حاضراً أو مستقبلاً. الشاعر لا يكتب قصائده لهذه الفترة أو تلك، وإنّما للزّمن كلّه. بهذا الفهم يمكن التّعامل مع شعر الأسلاف على أنّه شعر صالح للقراءة الآن أو في المستقبل. الإطاحة بالموروث الشعري أيضاً تشير إلى تجفيف الينابيع التي ننهل منها. ما من كتابة وحدها قائمة في الفراغ هكذا! ما من كتابة إلاّ وتنبني على غيرها، لكأنّ الشعراء يكتبون منذ الأزل نصّاً واحداً طويلاً مفتوحاً على الاحتمالات، حيث يقوم كلّ شاعر جديد يأتي بوضع علامة فارقة في هذا النّصّ، قد تكون هذه العلامة الفارقة نافذة، مزقة غيم، ضحكة مجلجلة!

) المسألة الثّانية: وتتعلّق هذه المسالة بدرجة حرارة النّصّ المكتوب ومقدار توتّره. هناك فرق كبير بين نصوص البلاستيك والنّصوص الطّافحة بالنّار، بين نصّ جاحد يوصد الأبواب في وجهك حين تقرأه، وبين نصّ يجتاحك ويسبب رجّةً في كيا نك. إنّ النّصوص الباردة ومهما جرى تزويقها سرعان ما ينكشف أمرها، وترسب منذ القراءة الأولى، فهي نصوص تقع خارج الفنّ. للأسف إنّ نسبة كبيرة من النّصوص الجديدة التي تملأ الصحف والمواقع الإلكترونية العربية هي دون نبض وتفتقر إلى تلك النار التي تحدّثنا عنها.

هناك نغمة دأب على عزفها الكثيرون في السّنوات الماضية، إلى الدّرجة التي صدّقناها. هذه النّغمة تتّصل بمرجعيّات الحداثة الشعرية لدينا، وعلى رأسها مرجعيّة قصيدة النثر، حيث ربط هؤلاء كلّ تلك المرجعيّات بالغرب.

في واقع الأمر أنأ أرى الأمور عكس ذلك، فقد شكّل الشعر العربي على وجه الخصوص وشعر الشّرق عموماً مرجعية للشعر الأوروبي، وذلك عبر المراكز الثقافية المنتشرة في الأندلس أو عبر جنوب إيطاليا. ما يهمّنا هنا التّأكيد على المرجعيّة العربية للشعر العربي المعاصر بما فيه قصيدة النّثر، التي أرى أنّها تفرّع طبيعي من تفرّعات الشعرية العربية مثلها مثل قصيدة التّفعيلة، هذا على الرّغم من الإشارة إلى أثر الغرب ربّما في لفت أنظار الشعراء العرب إليها. ليكن أنّ الشعر العربي قد اقتبس هذا الشكل في الكتابة الشعرية ـ وهذا شكل من مشاعية الشعر المشروعة ـ فإنّ ذلك لا يلغي التّجربة المعاشة ولا حساسية الكلام المكتوبة به ولا تاريخه.

يوسف عبد العزيز - فلسطين Yousef_7aifa@yahoo.com