Saturday 21/12/2013 Issue 422 السبت 18 ,صفر 1435 العدد

الرضا : ختمُ التعايش الإنساني

(أ)

كلّ شيءٍ نسبيٌّ في حياة الإنسان، والكمالُ مُحرّمٌ عليه لطبيعة فيه، يرفضها حيناً، ويرضى بها أحايين أخرى؛ وحينما طرحت تفكيك المثلّث المفاهيمي الأخلاقي (*): (العدالة، الحريّة، المساواة) على أنّها مفاهيم طوباويّة إذا لم تخرج من حلّتها الفكريّة المطروحة ثقافيّاً إلى حلّة تشريعيّة نسبيّة، تلتزم بواقعيّة واضطراريّة: (نسبيّة التنفيذ، وإعادة تدويره)، فإنّ الرضا كان هو المعيار الأساس الذي يصادق على ارتفاع نسب التنفيذ، وعلى ارتفاع معدل دوران تدويرها، فكلا النسبة والتدوير لا ينجزان فاعليّة واستمراريّة في حالة فقدان (الرضا) عن أي اتفاق ممّا يؤثّر في انخفاض نسب العدالة، الحرية، المساواة، ويعطّل من تدويرها.

فما من حريّة إلاّ مقيّدة، وكلّ قيدٍ منقصةٌ للحريّة، إذّاك فإنّ اتفاقاً واقعياً وواقعاً على (الرضا) أنّ هذه الحريّة المؤطّرة تشريعاً ونسبةً هي ما يمكن تحقيقه واقعاً وفق الظرفيّات والعلوميّات؛ وهي الحرية الواقعيّة الأكثر نسبة في تمثيل الحريّة - المصطلح الرابط بين الفكر والواقع.

والمساواة مطعون في انتشارها بحيث لا يخترقها تفاوتٌ، وحسبك أنّ طبقة تحكم تشريعاً وتنفيذاً، ونسبتها المئويّة إلى عموم الناس تكاد تكون معدومة (أقل من عُشر الواحد بالألف في جميع دول العالم)، وهذه الطبقة تمارس شؤون السياسة تشريعاً وتنفيذاً، وتملك أجراً وحصانةً تميّزها عن باقي وظائف الدولة ممّا يطعن في مفهوم المساواة الفكري في أيّ نظام سياسي؛ فما من مساواة إلاّ متفاوتة في الواقع: طبقيّاً، اجتماعيّاً، دينياً، سياسيّاً، حظوظياً، ..وهو ما يُعدُّ نقداً للمساواة الفكريّة المطلقة، وهو ما يتعذّر وجوده خارج الاتفاق المبني على (الرضا - الواعي - الواضح)، فإمّا اتّفاق بين الفكر والواقع على إزالة هذه المفردة بدلالتها الموهومة القيمة، أو الرضا بدلالاتها التشريعيّة المجازية المتفاوتة أو المساواة السياسيّة، ذلك أنّ إمكانيّة تحقيق نسبة من المساواة يتمّ تحت مبدأ التدوير وإعادة الفرص.

وكذا شأن العدالة، فما من عدالة إلاّ منسوبة إلى (شيء) تحمل منه صفة العدالة، وكلّ انتسابٍ جرحٌ في العدالة الفكريّة المطلقة، فلا يكون الواقع عادلاً وذا عدالة إلاّ بالرضا (القانوني - الحقوقي - الواجباتي) تشريعيّاً وتنفيذاً على العدالة النسبيّة المعلنة.

هكذا نجد أنّ المفاهيم الكبرى: (العدالة، الحريّة، المساواة) غير قابلة للحياة والتداول بشكلها الفكري المطلق إلاّ بوقعنتها تشريعاً يعتمد مفهوم الرضا بين الناس، الرضا القائم على الوعي، الوضوح، النسبيّة، التطوّر. وهو المفهوم الذي يربط هذه المفاهيم بعضها ببعض ضمن إعادة تأويلها واقعياً، فينقلها من عالم الفكر المثالي الطوباوي إلى الواقع النسبي، بناءً على الرضا بالنسب المختلفة في واقع المنافع والأضرار.

مفهوم الرضا هو الذي يصادق على الحرية الواقعيّة بديلا للحرية المطلقة على الرغم من كونها حرية منقوصة؛ وهو المصادق على المساواة التفاوتيّة التداوليّة بديلاً عن المساواة الوهميّة على الرغم من الطعونات والانتقادات الموجّهة ضدّها، لكنّ قوّة التبدّل والتحوّل فيها ومعدل دوران إتاحة الفرص سبباً في الرضا عليها، على اشتراطات توسيعها تشريعاً بعد آخر. ومفهوم الرضا هو المصادق على العدالة الواقعية المشرّعة التي تحقّق نسباً عالية من الإنصاف بديلاً عن العدالة الفكرية المستحيلة.

(ب)

(العقدُ شريعةُ المتعاقدين)، وفقدان الأهليّة والغبن تُفسخ العقد لبناءٍ باطليٍّ في أساس متنه وجوهره؛ فالمتنُ يُجرح إذا لم يكن (الرضا) مصادقاً وختماً عليه، وكلا فقدان الأهلية والغبن مخالفة لحالة الرضا الضامنة لسلامة بناء العقود. فالغبن مفسدةٌ تنزع الرضا تزويراً، والرضا لا يُقبل دون وعي وأهليّة به؛ فمفهوم الرضا قائم على تعدّد أطراف، ولا يكون أحاديّاً كمفهوم السعادة، والتي يمكن تحقيقها داخل الإنسان - بمفرده، إنّما الرضا يكون لأكثر من طرف، فهو القبول الواعي الذي يحقّق نسبة معلومة من المنفعة ويتحمّل نسبة معلومة من الضرر، على أن يتحمّل الطرف الآخر وإن لم يكن بالنسب عينها ضرراً ما ويحصل على منفعة ما، ولا يكون الرضا إلاّ متوازياً مع الخزن المعرفي القائم ظرفيّاً، بحيث إنّك لا تنزع الرضا نزعاً عبر إخفاء معلومات تؤثّر فيه.

وعلى هذا المفهوم تقف الاتفاقيّات جميعةً، والدساتير، العقود، التسويات، التفاوضات، المشاركات، الشركات، التحالفات، وأيّ علاقات بين الناس اجتماعيّة، اقتصاديّة، سياسيّة؛ فجميع ما يربط الإنسان مرهون بمفهوم الرضا وبموجبه يكتسب صفة الشرعية، وجميع ما يفرّق الإنسان مقرون بمفاهيم ضدّ الرضا ولا تستقيم مع الرضا أبداً.

فما الذي يؤثّر على الرضا؟ وهل الرضا ثبات أم متغيّر؟

إنّ البيئة العلميّة والمنفتح على التعدّد تؤثّر في قيمة الرضا وتقويمه بحيث لا يقع غبن أو تضليل، ولذلك يكون الرضا انعكاساً للواقع الصافي وظرفيّاته فإن كان واقعاً ناهضاً كان الرضا صادقاً، وإن كان واقعاً ضليلاً كان الرضا زائفاً ومؤقّتاً، ومن هنا نفهم أن الرضا حالة متطوّرة تبعاً للخزن المعرفي والتأهيل والواقع المتطوّر علمياً ومعرفيّاً وتقنياً؛ وأهم عاملٍ يؤثر على استمراريّة الدساتير والعقود وما يقع في حكمها، هو عامل الرضا (رضا الناس)، فكلّما زادت هذه الدساتير والعقود منفعة إلى أطرافها وقلّلت عليهم نسب أضرارها كلّما حظيت بنسب عالية من الرضا.

فكلّ دستورٍ أو عقدٍ يحقّق منفعة لأقلية فإن مسألة استمراره تستند إلى قوّة من خارج الدستور والعقد، ذلك أنّ مفهوم الرضا هاهنا مشكوك فيه، وكلّ اتّفاق يخلو منه فإنّه لا يحقّق سلماً أو استمراراً خالياً من الصراعات والنزاعات.

وكلّ دستورٍ أو عقدٍ يحقّق منفعة لأكثريّات الناس/ والأطراف بما يزيد من نسب توزيع المنافع بين مكوّناته وتقسيم الأضرار بينهم، فإنّه يحظى بقوّتين: الأولى هي قوّة من داخله بموجب مفهوم الرضا، والأخرى هي القوّة الخارجية الحاميّة لهذه الاتفاق، وهي قوّة الأكثريّات الراضية عنه.

(ج)

* كلّ عقدٍ منقوصُ الرضا مآلهُ صراعٌ أو نزاعٌ، وهو فاقدٌ للشرعيّة.

* الرضا عجلة الاستمرار، وختم الشرعية.

وإذا جمعنا هاهنا، مجموعتين متنافرتين تشكّل في كلّ منها مفردات تؤثّر على الواقع سلباً وإيجاباً؛ فمجموعة (س): (سلام، تفاوض، تنازل، تشارك، تسوية، تحالفات، اتحادات، وحدة، تعاون، تعايش..)، ومجموعة (ص): (الحرب، الصراع، النزاع، الخلاف، التصادم، التآمر، الخيانة، الغدر، العداء، الفوضى، الإقصاء،..)

فإنّ الرضا هو الذي يفرّق بين المجموعتين من المفردات، وربما هناك من يرى: أن الرضا حالة موجودة ضمن المجموعة (ص)، أيْ ضمن طرف واحد فقط، ويزعم التالي: (الرضا موجود بين داخل هذا الطرف الذي يريد الصراع، والرضا موجود داخل هذا الطرف الذي يريد الإقصاء.. إلخ)؛ والحجّة في نفي الرضا عن مجموعة مفردات (ص) تُبنى على عدم قدرة (طرف ما) أيّاً يكن أن يكوّن جدلاً خارجيّاً، وتلك المفردات تدعم وجود الطرف منفردة وتُقصي غيره، فإلى أيّ مدى يقدر طرف ما أن يشكّل عقداً واتّفاقاً ؟ من هنا نجد أن مفهوم الرضا يكون في تعدّد الأطراف، وهو ما لا نجده في مجموعة (ص)، بينما مجموعة (س) قادرة على تشكيل عقود واتفاقيات بين أطراف عدّة تقاربت بموجب (الرضا).

إنّ مفهوم العقد قائم على تعدّد الأطراف، وهذا الذي يجعل كلّ ذاك الرضا/ المسيّس في المجموعة (ص) مجازاً أو افتراضاً، وهو بديل (عن السعادة) التي يحقّقها ذاك التطرّف لمكوّنه الأحادي داخل الطرف، فلا قوّة واقعيّة للرضا الأحادي لأنّه لا يشكّل عقداً، وإن كان ثمّة اتفاق جبري يحقّق رضا لطرفٍ وسخط لآخر، فذاك أبعد ما يكون عن مفهوم الرضا الضامن لاستمراريّة الاتفاقات على مبدأ تبادل المنافع وتبادل تحمّل الضرر. بينما الرضا في المجموعة (س) فاعل ومنتج يقرّب بين أطراف متعدّدة تحت أيّ شكل من أشكال التعاقد والتعايش، ممّا يجعله أساساً في أي بناء إنساني؛ وشتّان بين اتّفاقيّات تحظى برضا أطرافها، وأخرى عرجاء يرضاها طرفٌ ويسخط عليها آخر، فأيّهما يضمن استمرار التعايش والسلم، وأيّهما يُنبّئُ باستمرار الصراع أو النزاع!

وعلى ضوء مفهوم الرضا يمكن دائماً قراءة دساتير عربية قائمة، وأخرى تحت الإعداد، ويمكن قراءة الاتفاقيات والتسويات، الداخليّة والخارجيّة، وما يقع في حكمها؛ فعلى أيّ أسس تقف دول هذا الشرق، وأين هي من شرعية الرضا؟!

** ** **

(*) المثلث الطوباوي: بضاعة الثقافة الفقيرة، الجزيرة 18-10-2012

ياسر حجازي - جدة