الأربعون - أنّه الموت:
عندما تشتد وطأة الهلع والرعب يصبح الموت أقرب، وتصبح الرؤية أكثر سوادًا، والحياة تفقد بريقًا كان له حضورٌ مميزٌ، وبفقدانه تغيب الحياة كلّّها ويحضر الموت، يقول بلند الحيدري:
في الأربعين
وعلى يدي
أكداس أحلام تموت بلا غدِ
لا..أبعدي
لا تبحثي في ناظري عن موعد
نقطة موت الأحلام، فالحياة هنا بلغت نهايتها ولا وجود للحلم، إِذْ لا وجود لغد يحقِّق هذا الحلم، فالأربعون هي النهاية ولا شيء بعدها، ولا بحث عن موعد يعني أنَّه لا بحث عن غد يفي بهذا الوعد فلا غد بعد الأربعين.
قسوة الشاعر على نفسه هو أوجد لها مبررًا داخليًّا وقبله ومنه انطلق:
وهنا تبقى الأفعال المضارعة هي مسلك التعبير، والبحث في ناظريه لا في أيّ شيء آخر فهو ليس في عينيه أيّ أنّه يطلب منها إلا تبحث في حين لا ينسى أن يمارس هو النظر.
ويقول سُحيم بن وثيل الرِّياحي:
وماذا يبتغي الشعراء مِنِّي
وقد جاوزت حد الأربعين؟!
فمجاوزة الأربعين لا شيء بعدها، إنه الموت رغم تدفق الهواء ومعايشة الأحداث، لكنه الموت.
وللاستفهام حضور كبير مع الأربعين، إِذْ هي نقطة التساؤلات، غير أن هذا السؤال يحمل بين طياته نفيًا: (لا تبتغوا مني شيئًا).
ويقول غازي القصيبي:
يا أعز النساء! أين مضى الطفل؟
وأين ابتسامه المعسول؟
أين ولت براءتي؟ أين طهري؟
أين غاب الفتى العفيف الخجول؟
كبر الطفل..شيبته لياليه..
وعرّته من صباه الفصول
قبضة الأربعين تهصر روحي
فأحاسيسي العذارى كهول
لم تُعدُّ، ثمَّ شعلة من حماس
سكب الزيت.. واستراح الفتيل
البراءة ولت والطهر غاب والأحاسيس كهول والحماس تاه، إنها الأربعون وهي لدى غازي مرحلة موت وانقضاء الحياة.
وقائمة طويلة من الاستفهامات والأسماء تستولي على معظم النص لا الأفعال، أنَّه التسليم التام والقناعة الكاملة والثبات حيث لا جديد ينتظر ولا حركة توجد، فحتى الأحاسيس التي لا تشيخ أصبحت كهولا.
ويقول حسن إبراهيم الأفندي:
أبعد الأربعين يقـال عنـى
غدوت مع الشباب أخا رفيقا
ومنها:
كأنى حين ودعـت الليالـى
وكنت أظن أنى لن أطيقـا
أغادر بين ليلاتى حياة
وعمرا حافلاً غضا رقيقا
وهنا لا شيء بعد الأربعين البتة فلا يعقل أن تعود الحياة بعد الأربعين، وهو يغادر الحياة برمتها والعمر كلّّه.
إنه الموت يحضر هنا.
الأربعون - الغاية المرفوضة:
الأربعون: يصورها الناس على أنها القيمة الأجمل فهل هي كذلك لدى من بلغها؟ هل يشعر حقا بجمالها؟ هل يحس حقًا أنها القيمة الثرة؟ أم تراه لا يَرَى ذاك التميز؟ أم أنّه سيراه ويرفضه؟
أتصبح الغاية حقيقة مرفوضة؟ يقول مهيار الديلمي:
عَدَدْتُ سِنيَّ لها والبياضُ
لدعواي في عدِّ ها مبطلُ
وأقبلتُ استشهدُ الأربعين
لو أن شهادتها تقبَلُ
وقالوا رداءٌ جميلٌ عليك
ألا ربَّما كُرِهَ الأجملُ
مع شاعرنا هي وإن كانت أجمل إلا أنها جمال مكروه مرفوض غير مرحب به، أنَّه جمال يستدعي البياض والضعف
الشاعر يشكك أصلاً في قبول شهادتها ناهيك عن قبول حضورها، ومن، ثمَّ هيمنتها لكنه ما يلبث أن يقر بـ (ربما)، فليس لديه يقين تام بكراهية الأجمل أيّ بكراهية الأربعين.
الشاعر بشكل آخر يعلم أنها غاية ولكنه يرفضها وهو إِذْ يرفضها يغلبه الصدق فتحضر
(ربما)
الأربعون - التميز:
الأربعون مرحلة التَّميز كما صورها أصحاب نظرة الغاية، ولكنه تميز يحمل المتناقضات بالشعور بكثير من اليأس وكثير من الأمل، هذان المتناقضان يحضران بوضوح في الأربعين يقول نزار قباني:
رجل أنا كالآخرين
رجل يحب - إذا أحب-
بكل عنف الأربعين
لو كنت يومًا تفهمين
ما الأربعون،
وما الذي يعنيه حب الأربعين.
«بكل عنف الأربعين»، هل يحتاج النص تعليقا؟ أو استنتاجا؟، والأربعون هنا هي فقط النقطة التي تفسر الحب، وتوجد السبب له بل وتجعله منطقيا، فمرحلة الميعة والتهور مضت والحب هنا لا بُدَّ وأن يكون قويًا؛ حتَّى يقبل رجل بلغ أشده أن يخوض التجربة مجدَّدًا بعنف لا يليق به سوى الأربعين.
يدهشني سؤاله هنا: « لو كنت يومًا تفهمين- ما الأربعون؟- وما الذي يعنيه حب الأربعين؟ «.
و»رجل أنا» بداية لافتة، لكنه يتبعها بـ «كالآخرين» فتفقد شيئًا من بريقها، غير أنها تفرض علينا الترقب لما سيقول، ليقرر أن حب الأربعين مختلف؛إذ المزاوجة بين الطيش - وفق رؤية المجتمع - ورزانة الأربعين، تجعل ذلك الطيش عنيفًا جدا، لكنها وحسب رأيه لن تفهم - مُطْلقًا - ما الذي يعنيه حب الأربعين.
لو لم يكن شاعرًا لقال: « بكلِّ يأس الأربعين « ولكنه الشعر!
الأربعون - بوح الذاكرة
الحب الأول يبقى في الذاكرة، وتبقى «الأربعون» الموعد الخصب لاجترار ذكريات ذلك الحب والتنعم بها على حد سواء، ذلك الحب الذي يبدو أنَّه تحدى النسيان، ولكنه اختار الأربعين موعدًا لتجدده.
يقول أبو فراس:
أبعد الأربعين مجرماتٌ
تمادٍ في الصبابة واغترارُ
ومنها:
وما أنسى الزيارة منك وهنا»
وموعدنا معانٌ والحيارُ
وطال اللَّيل بي ولرب دهرٍ
نعمت به لياليه قصارُ
إن أبا فراس يأبى نسيان ذلك الحب القديم، والزيارة والموعد يستحضرها بهدوء وعمق من استغرق في التفكير، ويبدأ النص باستفهام إنكاري يوهم بالعتب لكن في الحقِّيقة يمهد بعكس مقتضى الإنكار، فتنطلق الذاكرة ويستحضر المقارنة بين ما كان وما كائن الآن، إنها الأربعون ذلك السحر الغريب.
وفي نص عنوانه على عتبات الأربعين يقول عبد الله الرشيد في مطلع قصيدته:
أوقدي لي ذبالة من ذبولي
شاخ في مقلة المدى قنديلي
التراتيل- تذكرين التراتيـ...
ـل؟- تهشمن في مدار أفولي
والصبابات- تعرفين الصبابا...
ت - توارين في ركام العويل
كنتٍ ريحانة وكنتُ نسيما
جمعتنا مراهقات الفصول
إن مراهقات الفصول تعبير يفهم من سياق النص، لكن الشاعر يقرنها بالصبابات التي توارت، أو كان أسفًا حزينًا أم متأمَّلاً متذكرًا؟ أن لفظة من مثل «شاخ» و«تهشمن» و«ركام» تأبى أن يقتصر الأمر على التذكر، أنَّه أسف مرير على عهد مضى وحب انقضى.
ويقول مصلح المباركي:
عندما قالت أحبك!
كان عمري وقتها خمس سنين..
لم يكن للحب معنىً في فؤادي أو حنين..
ومنها:
إنني لحنك ياسيدتي
وبقايا أغنيات الأربعين
غير أني في سجلات الغرام
لم يزل عمري سوى خمس سنين!!
الإصرار هنا على استعادة الحب لا على سبيل التذكر فقط بل والمعايشة أيْضًا، فالشاعر ما زال هو هو ذو الخمس سنين، فعودي إِذْ ما زال في دفتره صفحات لمّا تقرأ.
الأربعون - عودة القبطان:
الأربعون رحلت وأقبلت الخمسون تمتطي صهوة مختلفة مغايرة، فما الذي سيحدث بعد تجاوزت الأربعين؟، أيتحدث الشاعر عن الخمسين، أم تفرض الأولى هيمنتها حتَّى بعد رحيلها؟، أيناقش الخمسين أم تخضعه الأربعون بكلِّ شموخها لأن يتجاهل الأخرى لتبقى هي منطقة الوحي لديه؟، يقول الشريف المرتضى:
كرهتُ الأربعين وقد تدانتْ
فمنْ ذا لي بردِّ الأربعينا؟
ولاح بمفرقى قبسٌ منيرٌ
يَدُلُّ على مقاتِليَ المنونا
«فمن ذا لي برد الأربعين»، وليس برحيل أيّ شيء آخر، وكأنه يعاتب نفسه إِذْ كانت الأربعين نقطة يأس في حينها، فإذا بها نقطة الفأل والقوة.
تبقى الأربعون نقطة مثيرة بعد رحيلها كما كانت قبل حلولها.
شيء من الرضا والرزانة تحملها مرحلة ما بعد الأربعين، فذلك الغضب من الشيب في الأربعين، جعله هنا قبسا منيرا، ويبدو شيء من الهدوء في مقاتلة المنون.
في النثيرة(*):
لا شيء سوى الموت والخوف والقلق، تبدو رحلة الحياة وكأنها توقفت تماما، فالرحيل يفرض هيمنته، والغد لا وجود له، وتمامًا كما صور بعض الشعراء المرحلة بأنها هلع وموت، نجد الأمر ذاته يتكرر في قصيدة النثر فالأربعون هي الرحيل، يقول حسن المطروشي:
(*) لست مقتنعًا بتسميتها (قصيدة النثر) فهي تحمل تناقضا إِذْ لا أفهم كيف تكون قصيدة وتكون نثرا في آن؟!! فإما أن تكون شعرا - قصيدة وهذا محال لعدم وجود تفعيلة فيها وإما أن نسميها النثيرة كما لدى إخواننا المغاربة.
انظري..
ها هنالك بادية تترنحُ في قفزها الملحميِّ،
بكلِّ مقابرها وشجيراتها،
كلِّ أعرابها اللائذين من القصفِ والطائراتِ،
انظري..
رجلٌ هاهناك على وشكِ الأربعين
بمحض غواياته راحلُ
الرجل راحل، واستخدام الاسم عوضًا عن الفعل (يرحل)، يغرس الكثير من الثبات، ويفرض الاستقرار، وهو راحل رغم غواياته، فهل الغوايات مقابل للتعقل؟، إذن الغوايات مقابل للأربعين وفق نظرة الكاتب هنا.
والمرأة أخت الرجل، ونقاط الدهشة لديه هي نقاط الدهشة لديها، لكنها حتما ستوجه الأمر توجيهًا يناسب تكوينها، وعاطفتها وإحساسها واحتياجاتها، تقول فاطمة ناعوت:
عند الأربعين
تكبر حقائب النساء
لتسع قرص الضغط وقمع السكر
ونظارة
تجعل الحرقة أكبر
والحروف المراوغة
أكثر طيبة
وهنا تستبدَّل المرأة أغراضها فلا تستدعي هنا أدوات الزينة والمكياج والكحل، ولكن ماالبديل؟، ما الذي كان جديرا بالاستيلاء على العرش؟، هل يكون ضرورة أم ترفا؟،
إنها أدوية الضغط والسكر والنظارة، وانتظار مر لا لشيء ولكن للنهاية القريبة.
وأخيرًا فإنَّ الأربعين تبدو موطنًا خصبًا للشعر والشعراء، والتعبير عنها كما مر بلغ حد التناقض، فهي الحياة وهي الموت، وشاعر يستعيدها ويستدعيها وآخر يهرب منها.
الأربعون رقم صعب في محافل الشعراء، غير أن نظرة دقيقة للنصوص السابقة تجعلنا نلحظ أن الأربعين حضرت في كلِّ النصوص السابقة منصوبة أو مجرورة (الأربعين)، ولم تحضر مرفوعة إلا مرة واحد لدى استفهام نزار قباني: « ما الأربعون؟»، وحتى لدى نزار فقد حضرت مرة مرفوعة في مقابل مرتين بالياء.
أهو الانكسار؟ أم هو محاولة لإبعادها؟
تحضر كل مرة معمولا بها بالجر أو بالنصب، وحضرت مرة واحدة عاملة!! تستدعي الزمان والمكان مع حرف الجر، وتخضع لسلطة الفاعل، وتستسلم مع المضاف، وفي مرة واحدة كان وجودها قويا.
يبدو أن عملها في الشاعر وقد فعلت ما فعلت فيه جعله ينتقم فلا يسمح لها أن تعمل في أيّ جملة، لا يريد أن يقر لها بالسلطة، بل يُعمِل فيها أشياء أخرى.
- الرياض